أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 19 يناير 2012

عيد ميلاد يوحنا المعمدان

يا إخوة، اليوم، في عيد ميلاد يوحنا السابق المجيد، نعيِّد لِمَن شهد له ربنا بأنه أعظم مواليد النساء وأكثر من نبي. عظمة يوحنا هي في كونه سابقاً للمسيح، أي هو مرسَل من الله لكي يهيئ طريقه قدّامه. يوحنا الإسم مختصر يوحنَّان، الذي معناه يهوه حنون أو الله حنون. ويوحنا كان ثمرة ولادة شيخين تجاوَزا زمن الولادة الطبيعية. يقول إنجيل اليوم عن زخريا وأليصابات أنهما كانا بارَّين أمام الله سائرَين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم. بكلام آخر كانا مَرْضيَّين لله بصورة كاملة. وإذا كان ربنا قد شاء ليوحنا أن يولد بعدما تجاوز زخريا وأليصابات زمن الولادة، فلكي نعرف أن يوحنا هو ثمرة النعمة وليس فقط ثمرة الطبيعة.




إذا كان للجسد خصبٌ، فالروح مُخصِبٌ أكثر بكثير. والله يجعلنا دائماً نتجاوز ما هو من حدود الطبيعة قبلما يتجلى في حياتنا، وذلك لكي نعرف كيف نميِّز بين ما هو لله وما هو للطبيعة البشرية. زخريا وأليصابات كِلاهما من سلالة كهنوتية. والكهنوت عند اليهود له غرض واحد أساسي هو تقديم الذبائح والتَّقدمات في الهيكل. وقد كانت لديهم تَقْسيماتُهم للكهنوت. إحدى القبائل التي هي قبيلة لاوي هي التي كان خرج منها الكهنة. وكان الكهنة، قبل السَّبي إلى بابل، مقسومين إلى أربعة وعشرين فرقة، يتناوبون. وقد كان زخريا من الفرقة الثامنة التي هي فرقة أبيّا. فحين عاد الشعب العبري من بابل تَقَلَّصت الفِرق الكهنوتية إلى عدة فِرَق، وكانت فرقة أبيا من بين الفرق التي بقيت.


يوحنا وُلِدَ قبل الرب يسوع المسيح بستة أشهر. وأليصابات كانت نسيبة مريم، كما نعرف من النص الكتابي. ونعرف كذلك أنه لمّا كانت أليصابات حاملاً بيوحنا، ذهبت مريم إليها وبقيت عندها حوالي ثلاثة أشهر، وكانت مريم حبلى من الروح القدس بالرب يسوع المسيح.

فلمّا وقع نظر أليصابات على مريم، كما يقول النص الكتابي:"ارتكض الجنين في بطنها"، أي تحرَّك بطريقة فيها فرح، وكأنّ روح الرب نزل إلى أحشاء أليصابات وعَبَّرَ الجنين عن فرحه بهذه الطريقة. هناك أيقونة لا تزال مستعملة إلى اليوم، لكن يبدو أنها تعود إلى القرن الثاني عشر، هذه تصوِّر زيارة مريم لأليصابات. يصوَّر في حشا مريم الربُ يسوع وفي حشا أليصابات يوحنا. الغريب أنَّ يوحنا، في الأيقونة، ساجدٌ في حشا أمه للرب يسوع في حشا مريم.


إذاً، يوحنا كانت يد الرب عليه منذ الحبل به. هو مختار الله. وأولاد النعمة هم دائماً أنبياءُ لله. نحن الذين وُلدنا بالماء والروح أُعطينا أن نصير أمَّة كهنة وأنبياء. النعمة الإلهية إذاً هي التي جعلت من يوحنا نبيّاً وكاهناً في نفس الوقت. أنْبَأ بكلام الله، وأعَدَّ الطريق لمجيء مسيح الرب. وفي نفس الوقت، لأنه كان من سلالة كهنوتية، كان كاهناً إلا أنه بدل أن يقدِّم ذبائح في الهيكل اليهودي، قّدَّم نفسَه ذبيحةً.


بهذا المعنى، صار هناك انتقال، في شخص يوحنا المعمدان، من الكهنوت القديم إلى الكهنوت الجديد. الكهنوت القديم كانت فيه ساريةً تقدمة الذبائح الحيوانية. أما الكهنوت الجديد فيجعل كلَّ المؤمنين كهنةً يقدِّمون أنفسهم ذبائحَ لله. هذا يحقِّق قول الرسول بولس أننا:"إنْ عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن." لاحِظوا أنّ النبوّة في المسيح مرتبطة بتقديم النبي نفسَه ذبيحةً لله.


إذا لم يكن كلُّ واحد من المؤمنين مستعداً لأن يموت من أجل يسوع، فمستحيلٌ عليه أن يكون لساناً لله وأن يتكلم بالإلهيات. لهذا السبب، المقدّمون عندنا، في كنيسة المسيح، هم الشهداء الذين قرَّبوا أنفسَهم ذبائح على مذبح محبة الله. هؤلاء هم النموذج بالنسبة إلينا. وكل القدّيسين الآخرين شهداء على منوال هؤلاء الشهداء بطريقة أو بأخرى.

إذاً، يوحنا كان هذا الرّابط الذي رَبَطَ ما بين العهد القديم والعهد الجديد، ما بين النبوءة في العهد القديم والنبوءة في العهد الجديد، ما بين الكهنوت القديم والكهنوت الجديد. وكما قلت، كانت يد ربنا على يوحنا منذ البدء وحتى الأخير. كذلك نعرف من النص الإنجيلي الذي تُلِيَ على مسامعنا أنّ يوحنا كان ينمو ويتقوّى بالروح، منذ الطفولية. فلمّا كَبُرَ قليلاً خرج إلى البراري، إلى برية اليهودية، وبقي هناك إلى يوم ظهوره لإسرائيل.


بحسب الدراسات، قبل أن يظهر يوحنا لإسرائيل أي قبل أن يباشر مهمّة التعميد وإعداد الشعب لمجيء مسيح الرب، كان يعيش في محيط البحر الميِّت. ويقال أنه انضمّ إلى جماعة يهودية طُهرِيّة، تدعى جماعة الآسينيّين، كانت تعيش هناك. هؤلاء كانوا بمثابة رهبان يهود. كانوا يمتنعون عن الزواج وكان يهمُّهم أن يتنقّوا أمام الله، وتعاطوا، فيما يبدو، نوعاً من أنواع الغسل أو المعمودية. كانوا يغتسلون ويعتمدون كل يوم ليتنقَّوا من خطاياهم ومن رجاساتهم أمام الله. ويُظنّ أن يوحنا المعمدان استمدَّ فكرة المعمودية من هذه الجماعة التي عايَشها ردحاً من الزمان.


فلمّا صار مستعداً لأن يخرج إلى إسرائيل، أخذ يعمِّد. كان يعمِّد في نهر الأردن. ومهمّتُه، كما حَدَّدَها له ملاك الرب، كانت أن يردَّ قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى حكمة الأبرار ويهَيء للرب شعباً مستعداً. فكان يدعو الناس إلى الإغتسال مرّة واحدة. طالبهم بأن يأتوا مقرّين بخطاياهم، حتى باعترافهم بها يتهيَّأون لمجيء المسيح الآتي، الذي كان مزمعاً أن يعمِّدهم بالماء والروح. معمودية يوحنا كانت لمغفرة الخطايا، أما معمودية يسوع فكانت لولادة جديدة لملكوت السماوات بالماء والروح. يوحنا، فيما يبدو، كان من جهة ما هو لله قاطعاً كالسيف، أي لم يكن عنده ما يُدعى مساومة. لم يكن يساوم إطلاقاً على ما هو لله. ينبغي لديه أن يُطاع الله أولاً. لهذا السبب دخل في صراع مع الملك هيرودس أنتيباس الذي كان على اليهودية.


والمقصود باليهودية أورشليم وما حولها. فهيرودس أنتيباس كان متزوِّجاً من امرأة عربية، هي ابنة الحارث، الملك المعروف في ذلك الزمان. لكنها لم تكن تعجبه فأرسلها إلى أبيها، وخطف زوجة أخيه فيلبس. فيلبس كان أخاه من جهة أبيه. كان هذا متزوجاً من امرأة تدعى هيروديا. هذه المرأة كانت لها ابنة صبية تدعى سالومة. فهيرودس أنتيباس أخذ زوجة أخيه وعاش معها بخلاف الشريعة.


في الأساس، هيرودس الكبير وأولاده أي هيرودس أنتيباس وهيرودس فيلبس وغيرهما ما كانوا من جنس اليهود بل من شعب آخر يدعى الشعب الآدومي، يعيش في جنوبي اليهودية. ثم، في وقت من الأوقات، فُرِضَ عليهم أن يصيروا يهوداً، وأن يقتبلوا اليهودية ديناً، لكن يبدو أنهم ما كانوا رصينين في اتِّباع الديانة الجديدة. لهذا السبب لم يكن هيرودس أنتيباس مكترثاً للديانة اليهودية والشريعة الموسوية، لذا عاش في الزنى. وكان يوحنا يقول له دائماً أنه لا يجوز أن تكون لك امرأة أخيك. هذا مخالف للشريعة. كان يُبَكتَّه بصورة دائمة.


وهيرودس حقد عليه. في الوقت نفسه كان هيرودس يخاف يوحنا ويحترمه، لأنه كان يسمعه أحياناً وينبسط من كلامه. لكن لأنه كان يعيش في الخطيئة ولم يكن مستعداً لأن يتخلى عنها، كانت في نفسه مشاعر متضاربة تجاه يوحنا. لهذا جعله في السجن إلى وقت آخر، إذ لم يكن عارفاً بعد ماذا سيصنع به. لكن هيروديا زوجة هيرودس أنتيباس بالزنى كانت حاقدة على يوحنا وأرادت أن تتخلص منه.

يوحنا سُجن في قلعة قريبة من البحر الميت مطلّة على مياهه. ويبدو أنه كان يتوقع نوعاً من التّدخُّل الإلهي، لأنه كان يحسّ بأنَّ هناك ظلماً واقعاً عليه. ثم في وقت من الأوقات ضعُف وهو في السجن، فأرسل تلميذين من تلاميذه إلى يسوع ليسألوه:"أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر". لاحِظوا أن يوحنا العظيم مرَّ بأوقات كان فيها ضعيفاً. هذا لكي نعرف أنَّ قوَّة الإنسان من عند الله الذي صنع السماء والأرض. لا أحد منا قوياً. القوي هو الشّداي، هو الله، هو وحده الصنديد. كل إنسان ضعيف. وبولس يقول كلاماً جميلاً في عمل قوة الله من خلال ضعف الناس.


يقول:"أفتخر بالحري بضعفي، لكي تحلَّ عليَّ قوة المسيح". يوحنا، طبعاً، لم يكن لِيُلام لأنه كان ضعيفاً. بالعكس تَرَكه ربُّنا يشعر بضعفه لأنه أحَبَّه ولأنه أراد لنعمته أن تفعل فيه. لا أحد منا قوياً على الإطلاق. كل واحد منا يمرّ بأوقات يختبر فيها الضعف وأحياناً منتهى الضعف، لا سيما لحظة الموت. وهذا كله بَرَكة من عند الله حتى نتعلم أن نُلقي بأنفسنا بصورة كاملة بين يدي الله الحي. لماذا أبقى ربُّنا على الموت، وهو القادر أن يلغيه؟ الله أبقى على الموت لخير البشرية. لأنه ليست هناك لحظة كلحظة الموت تعطي الإنسان أن يختبر الضعف البشري. حين يختبر الإنسان ضعفه كما هو، يتحرّر من أوهامه.


إذ ذاك فقط يلتفت بصورة كاملة إلى الرب الإلهِ ليَسْتقوي به. تعلمون أنَّ آخر كلمة تَفَوَه بها الرب يسوع على الصليب كانت:"في يديك أستودع روحي". وكان يخاطب الآب السماوي. هذا هو التعبير الأمْثل عن الإيمان بالله، لأن الأيمان بالله، في العمق، هو أن نستودع أنفسنا بين يدي الله الحي، أن نلقي بأنفسنا لديه بالكامل. طالما الإنسان على قيد الحياة، فلا بدّ له أن يشعر أحياناً بشيء من الضعف وأحياناً بشيء من القوّة، لكنّه لا يُسلِم نفسه بالكامل إلى الله إلى أن تأتي ساعة الموت. لهذا السبب كثيرون يتحقّق إيمانهم بالله وهم على فراش الموت.

بهذا المعنى، حين نصلّي نطلب من الله أن يُبعد عنا الموت الفجائي، لأنّنا ننظر دائماً إلى تلك اللحظة، لحظة الموت، من حيث إنّها تعطينا أن نختبر ضعفنا، كما تعطينا، في آن معاً، أن نلقي بأنفسنا بين يديه محقِّقين الإيمان بيسوع تحقيقاً كاملاً.

عَظَمة يوحنّا، كما قلت، هي في أنّه قدَّم رأسه على طبق. كان مستعداً لأن يموت لأجل يسوع. لهذا كان كلامه قوياً وكان يشهد للحقّ. الحقّ في هذه الدنيا مخيف جداً، لكن مَن يقولون الحقّ ويشهدون للحقّ هم ضعفاء جداً من جهة ما لأنفسهم، لأنّهم يتقوَّون بقوّة الله وحدها. إذا كانوا أقوياء في قول الحقّ، فلأنّ الله هو الذي يعطيهم هذه القوّة. في نفس الوقت، الذين يشهدون الحقّ، في هذه الدنيا، هم خراف، ولا بدّ لهم أن يُذبَحوا. المسيح ذُبِح لأنّه الحقّ. وكل مَن يتحدّث بالحقّ في هذه الدنيا مصيره كمعلّمه.


"لأنّه ليس تلميذ افضل من معلّمه، إنْ كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً". لذلك كل رجال الله وكل نساء الله في التاريخ، في سلوكهم بالأمانة لله، كانوا يبذلون أنفسهم الواحد تلو الآخر. الأنبياء، لأنّهم ينطقون بالإلهيات، يُضطهَدون. الناس في اكثر الأحيان يطلبون ما هو لشهواتهم ولا يهمّهم أن يسمعوا كلمة الحقّ. بالعكس، مَن يتكلّم بالحقّ يضطهده أكثر الناس في هذه الدنيا. حتى أبناء الكنيسة، أبناء كنيسة المسيح، ثمّة قسم كبير منهم لا يحبّ الحقّ، بل يريد الباطل ويريد أن يستعبد الحقّ لباطله. يريدون الكهنة أن يتكلّموا بالكلام الذي يرضي الأقوياء في هذه الدنيا.


أما نحن، فإذا أردنا أن نكون يوحنّائيّين، فلا بدّ لنا من أن نكون مستعدّين لأن نقدِّم رؤوسنا ذبائح لله، حتى يبقى الحقّ في هذه الدنيا ساطعاً. يوم يموت الحقّ تزول البشرية. في الأزمنة الأخيرة يقلّ الحقّ. الله كان واضحاً في قوله: "متى جاء ابن الإنسان فهل يجد الإيمان على الأرض". إلى هذه الدرجة يصير الحقّ مرذولاً في الزمان الأخير ويصير العدل مُداساً والإيمان قليلاً، والمحبّة تضعف.


محبّو الحقّ يصيرون قليلين جداً. لهذا يقول القدّيس يوحنّا الذهبي الفم إن الإيمان، في الزمن الأخير، يضعف لدرجة أنّه يكفي الإنسان أن يقول من كل قلبه: "يا ربّ ارحم"، حتى يُحصى في عداد كبار القدّيسين. كلّما تقدّم الزمن، كلّما صار الحال أردأ لا بدّ للإيمان من أن يضعف. هذه واقعة سبق للربّ يسوع ولرسله أن تكلّموا عليها. المهم أن يحفظ كل منا الأمانة إلى المنتهى، حتى يبقى الحقّ ساطعاً وحتى نبقى نحدِّث بما فعله يوحنّا حين كان سابقاً للمسيح. كلّنا بالشهادة ليسوع نكون سابقين للمسيح، نُعِدُّ الآخرين للمجيء إلى يسوع. هذه شهادتنا وهذا مصيرنا!



مع محبتي للجميع بالمسيح ربنا آمين

كل عام و الجميع بألف خير
سامر يوسف الياس مصلح

بيت ساحور 20/01/2012

ليست هناك تعليقات: