أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 17 مارس 2011

القديس جراسيموس



هلموا لنمدح أيها المؤمنون جراسيموس الإلهي الظاهر لنا حديثاً، نصيراً للمستقيمي الرأي، وملاكاً بالجسد، وصانعاً للعجائب متوشحاً بالله، لأنه نال باستحقاق من لدن الله، موهبة الأشفية التي لا تفرغ، ليبرىء المرضى ويشفي المصابين، فلذلك يفيض الأشفية لمكرّميه.




سيرة حياة القديس جراسيموس



أصله
ولد القديس جراسيموس في بلدة تريكالا التابعة لمدينة كورنثوس الجبلية، عام 1509م، من أب يدعى ديميتريوس وأم اسمها كالي، من عائلة النوتاريين، وقد كانت عائلة النوتاريين عائلة رسمية عريقة من المحيط الإمبراطوري في مدينة القسطنطينية، ولكنها بعد سقوط القسطنطينية اختارت بلدة تريكالا كمكان جديد لإقامتها، تجنباً لهمجية العثمانيين، وبحثاً عن الهدوء والسلام بعيداً عن الاضطهادات.


ويذكر التقليد بشكل أدق، أن لهذه العائلة أواصر قربة مع عائلة الباليولوغي التي اعتلت عرش القسطنطينية في عام 1261م، وبالطبع فإن هذه القرابة ليست قرابة دم بل هي ناتجة عن مصاهرة، فإن واحداً من عائلة النوتاريين كان قد اتخذ له امرأةً من عائلة الباليولوغي.


ومن الجدير ذكره أيضاً، أن القديس مكاريوس، أسقف كورنثوس الذي نعيّد له في السابع عشر من شهر نيسان، ينحدر من عائلة النوتاريين، لكنه يسبق القديس جراسيموس بمائتي عام. وبما أن القديس جراسيموس كان ينحدر من نسل عائلي كهذا، فقد حصل على تربية جيدة، فكان وقوراً، ملتزماً بالتقاليد.كان يتمتع أيضاً بسلوك حسن، ونفس صالحة. كما وأحرز تقدماً في علومه، وخاصةً العلوم الدينية. كان قلبه يُسر عندما كان يدرس الكتاب المقدس والكتب الدينية. وأما روحه فكانت تبتهج عندما كان يقرأ سير القديسين.


إن التقوى التي زرعتها فيه أمه، كانت تتعزز يوماً بعد يوم. فكان يحب جداً أن يذهب إلى الكنيسة، لدرجة أنه لم يتخلف أبداً عن قداس يوم الأحد، ولا عن قداديس الأعياد. بالإضافة إلى أنه اهتم بتنمية نفسه روحياً، لأنه أدرك أن "كوننا- نحن البشر – على صورة الله ومثاله"، فهذا شيء أثمن من كل الأشياء في العالم. أي أن يشابه أحدنا الله، فهذا له قيمة عظيمة جداً. وبالفعل كان هذا بمثابة المغناطيس الذي جذبه، فصار هدفاً وغايةً لحياته، كما هو غاية كل إنسان. وبقي بمثابة المحور الذي دارت حوله كل الأهداف السامية والمثل العليا الرائعة عند القديس.

كان طموحه الوحيد أن يصبح كاملاً، أي أن يصير قديساً. وقد كرّس كل قواه في سبيل بلوغ هذا الهدف. وبالطبع فإنه لم يولد قديساً ولكنه صار كما صار بقية القديسين، بقوة الله ونعمته. ونؤكد على ذلك لأن هذا الأمر عسر الفهم عند الماديين والمصلحين، الذين يقيسون كل الأشياء بمقياس المنطق والمنفعة المادية.

رفضه العاميات
كان بمقدور الشاب جراسيموس أن يصل إلى قمة المجد العالمي، بدون تعب كبير، لأن انتسابه العائلي العريق، والمساندة الأبوية له، بالإضافة إلى قوة غناه كانت من العوامل التي ستساعده على ذلك. ولكن الشيء السهل لم يجذبه إطلاقاً، بل على العكس، كان يفضّل الطريق الصعب والتعب، طريق الفضيلة الذي يقوده إلى ملكوت الله.
أراد أهله أن يزوجوه بفتاة، وضغطوا عليه ليجبروه، لكنه رفض وهرب، إذ كان يميل إلى العزلة والوحدة، حيث يستطيع أن يقتني العلويات والأبديات.




كان جراسيموس على علاقة حميمة بأحد الرهبان المثقفين، الذي كان يدعى باخوميوس روتسيانيس. ولما بلغ الخامسة والعشرين من العمر. اتخذ قراره الكبير والشجاع بأن يترك كل شيء الأهل والأقارب والممتلكات والغنى والمجد والإكرام والناصب. وأن يتجند لبلوغ قداسة نفسه. وأما الكلام الذي قاله الله لإبراهيم أبي الآباء "اترك أرضك وعشيرتك و..." كان قد سمعه القديس أيضاً، فعزم أن يغادر العالم.وفي يوم من الأيام ترك كل شيء وغادر إلى جزيرة زاكنثوس.

هناك في زاكنثوس عاش كناسك، ومن مثاله وشجاعة روحه تعلم كثيرون. فقد كان مثالاً للروحانية الكاملة. ومن هنا بدأت تظهر قوته الصلبة، وتفوقه الذي لا يُبلغ إليه بالإضافة إلى تصميمه العجيب. فإنه لم يعرف لا التساهل ولا التراخي. كان يتبع دائماً قول الرسول بولس: "أقهر جسدي وأستعبده".

جولات القديس
يمكننا أن نميز ثلاث مراحل في حياة القديس بعد مغادرته لبلدة تريكالا في مدينة كورنثوس. فبعد جزيرة زاكنثوس غادر القديس إلى المراكز الروحية للأرثوذكسية، إلى منطقة ثيساليا، وإلى المتيورا
ثم صعد إلى القسطنطينية، إلى بروبونديس، إلى خلقيدون وإلى جميع المناطق المحيطة بمدينة بيزنطة، حيث كان يعيش هناك رجال قديسون، معروفون بالفضيلة والقداسة. وبالرغم من أن القسطنطينية – أرض آبائه- كانت محتلة، إلا أنها كانت تحافظ على سحرها وجمالها وأهميتها.


في هذه المراكز الروحية اجتهد القديس جراسيموس ودرس. ومن هناك استخلص تعاليمه، التي نفعته كثيراً جداً في حياته اللاحقة.

هناك أيضاً تأثر بالتيار الرهباني فقرر أن يعيش هو أيضاً كناسك. ولهذا السبب غادر القسطنطينية متوجهاً إلى الجبل المقدس (آثوس) حيث أصبح راهباً. ولا نعرف اسمه الأول قبل أن يصبح راهباً، ولكن من المؤكد أن "جراسيموس" هو الاسم الذي أخذه في الجبل المقدس، عندما أصبح راهباً. وبهذا الاسم عبر إلى الحياة الدهرية.
في الجبل المقدس، كانت جهاداته سعياً نحو كماله قاسية. جهاد يومي، جهاد مُلّح ومتعب، جهاد ضروري لتحقيق أهدافه السامية. وبالفعل فإنه بنعمة الله وبمساعدة جهاداته القاسية والمستمرة، اكتسب التواضع، الطاعة، والإيمان الوطيد، والشعور بالآخرين، ومحبة الأخوة، وطول الأناة والنقاء الداخلي.
ويبدو أن إقامته في الجبل كانت قصيرة.

في الأماكن المقدسة
من جبل آثوس غادر متوجهاً إلى فلسطين، تلك التي كان يحلم بها عندما كان في الجبل المقدس، والتي كان يقرأ عنها في الإنجيل المقدس وفي كتب أخرى، استحق أن يراها الآن عن كثب.
فرحت وابتهجت نفسه لأنه رأى وتلمس الأماكن، حيث قَبِلَ المسيحُ أن يولد بالجسد، ويترعرع، ويتألم، ويصلب ويقوم. ولم مكان مقدس إلا وزاره القديس.


كان من أحد اهتماماته الرئيسية في هذه الزيارة، أن يتعرف على كهنة ورهبان يعيشون حياة الفضيلة والقداسة. أراد أن يتعرف على أشخاص متشحين بالمسيح ومتوهجين قداسةً، بحيث يستطيعون أن يعززوا غيرة نفسه، وأن يرشدوه أكثر إلى طريق التقوى. بالإضافة إلى أنه أراد أ، يعيش عن قربٍ الكمال الرهباني في مناسك صحراء فلسطين.


وكل أمنية مقدسة كانت تجلب الأخرى. فصار الآن يرغب بزيارة جبل سيناء، وقد زاره بالفعل. ذهب إلى الجبل حيث سلم الله لموسى النبي لوحي الشريعة، الذين كان قد نقشهما بنفسه. وهناك درس بانتباه الأسفار خمس الأولى من العهد القديم، التي كتبها موسى النبي. ومن سيناء غادر وهو متشدد، فزار إنطاكية، ودمشق، والإسكندرية، ومصر، وليبية وكل منطقة الشرق تقريباً.


قد يستغرب أحد لهذا المخطط الذي وضعه القديس جراسيموس.
بالطبع، لا يُسمح للراهب بأن يخرج من دير توبته لكل هذه السنين، ولا بأن يتجول كل هذا التجوال كله. لكن القديس ابتعد بهذا المقدار، وغاب لكل هذه السنين عن ديره، ليس لأن عنده هواية السفر والتجوال، وليس لأن السفر كان عنده كنقطة ضعف أراد إشباعها، بل لأنه كان يؤمن بأن الطبيعة، والمناطق التاريخية، والمدن ومخالطة أناس حكماء وفاضلين، تشكل المساعد الأفضل والأثمن للجهاد الروحي. فهذه الأشياء كانت تساعده في تشكيل خُلق مسيحي ثابت وصالح.


لم يفعل القديس هذا الشيء إذاً بدون هدف، لأنه كان على يقين بأن هذه الجولات قد نفعته كثيراً، ولا بد أن الآخرين ربما كانوا سينتفعون منها أيضاً.

رسامته
بعد مسيرة متعبة كهذه، وحصاد روحيٍ كهذا، عاد القديس ثانية إلى أورشليم. لكن رغبته الحارة في أن يخدم المسيح عند القبر المقدس، دفعته للعمل كمُشعِلٍ للقناديل هناك، لمدة عام كامل.


فأثارت شدة تفانيه في الخدمة اهتمام البطريرك جرمانوس (1537- 1579م)، الذي سامه شماساً، وكاهناً فيما بعد.
بقي القديس قرب البطريرك اثنا عشر عاماً، حيث أظهر كل ما عنده من نعمة، وقداسة، ومحبة وعطف على الآخرين. وككاهنٍ أخذ على عاتقه اهتماماتٍ جديدة من أجل خدمة المسيحيين هناك. كما وأبدا عناية خاصة بالحجاج الأجانب الذين كانوا يأتون لزيارة الأراضي المقدسة، ليساعدهم من خلال زيارتهم، أن ينالوا أيضاً فائدةً روحية، وخشوعاً وتكريساً أعمق في حياتهم المسيحية.


عندها، وبسماح من رئيسه الروحي، البطريرك جرمانوس، زار ضفاف نهر الأردن. وهناك مارس جهاداتٍ نسكية، تشبهاً بالقديس يوحنا المعمدان. وصام أربعين يوماً كما صام الرب يسوع قبله. فكان هذا دليلاً جديداً على أن الأزمنة والدهور لا ذنب لها – كما ندّعي نحن مبررين أنفسنا- ولكن الذنب يعود لقلة إيماننا، إذا لم نقل: عدم إيماننا. السبب إذاً هو لا مُبالاتنا بالعظائم والعُلويات، هو إرادتنا الضعيفة. وأما صومه لأربعين يوماً فليس شيئاً لا يصدق، بل هو موهبةٌ ممنوحةٌ للقديس.

عودته إلى اليونان
بعد كل هذا، يطلب القديس بركة البطريرك ليعود إلى اليونان، وبهذا تبدأ المرحلة الثالثة من حياته. وعلى الأغلب أنه عمل محطة في قبرص، ثم أتى إلى جزيرة كريت التي كانت في ذلك الوقت خاضعة للبندقية. ومن هناك ذهب بسهولة إلى جزيرة زاكنثوس، فكانت هذه هي زيارته الثانية للجزيرة. في المرة الأولى حين درس فيها، وأما الآن فكاهنٌ مؤتمن على أسرار الله، مكتملٌ بالمعرفة المسيحية والفضيلة.




في زاكنثوس هرب القديس وسكن في جبل منحدر، من الصعب صعوده،يقع في الجهات الغربية من الجزيرة، لأنه كان يُسرُّ ويفرح عندما يكون بعيداً عن الضجيج وصخب المدينة. عاش هناك خمس سنوات، استمر خلالها بجهاده القاسي في نُسك وأتعاب جسدية. كان طعامه عبارة عن الكوسا المسلوق غير المملح، وبعض البقول المبلولة بالماء. وأمضى ثلاثين سنة لم يضع خبزاً في فمه. صار من وقتٍ لآخر ينزل إلى القرى المجاورة ليعظ المؤمنين ويقبل اعترافاتهم.

في جزيرة كيفالينيا
ومن جزيرة زاكنثوس، غادر إلى جزيرة كيفالينيا، التي أصبح شفيعاً وحامياً لها حتى وقتنا الحاضر. وكمكان للسكن اختار مغارة في منطقة أرغوستولي، التي كان سكانها يسمونها المغارة (سبيليا)، كما كانت تدعى البلدة القريبة من ذلك المكان. في داخل هذه المغارة نسك قديسنا أحد عشر شهراً. هناك صارع الشيطان بشدة صارعه وجهاً لوجه. وفيما بعد، شُيّدت في ذلك المكان، إكراماً للقديس كنيسة تعيد مرتين في السنة.



انتشرت شهرة القديس في كل المنطقة، فأسرع الناس من القرى المجاورة ليعترفوا عنده، وليستمعوا لكلماته الحكيمة وليسترشدوا من أجل جهادهم الروحي. وهذا بالطبع كان جيداً للناس، ولكنه لم يكن كذلك بالنسبة للقديس نفسه. إذ إن القديس أراد أ، يكون منعزلاً بشكل تام عن العالم، وأن يتمتع عقلياً بشركته مع الله. ولهذا فقد شد خطاه من جديد، وذهب لموضع آخر، فيه هدوء أكثر، يدعى أومالا.


بالرغم من اسم المكان: أومالا، الذي يعني باليونانية: مستوياًَ، أو سهلاً أو منبسطاً، فإن ذلك المكان كان موحشاً، مُجدِباً، وعراً ومن الصعب الوصل إليه. كانت الغابات والأراضي البرية تحيط به. وأما من الجهة المقابلة له فكانت تقع بلدة بسلمانا.


وفي عام 1560م كان كاهن البلدة، الأب جاورجيوس بلسموس قد وهب القديس كنيسةً صغيرة على اسم والدة الإله الفائقة القداسة، لكي يقيم فيها الخدم الإلهية. وفي هذه الكنيسة كانت توجد أيقونة لوالدة الإله، يُعتقد أن القديس قد وجدها.

كان للأب جاورجيوس أختان تعيشان الحياة الرهبانية. ونزولاً عند رغبتهما، أقام القديس في هذا الموضع وبدأ عمله الشاق في تنظيف الأرض وزراعة أشجار الزيتون والكرمة.
وحفر القديس بنفسه في أمكنة كثيرة، بحثاً عن الماء، حتى وجد أخيراً. فعمل بئراً مازال موجود حتى يومنا هذا. ولهذا البئر خصوصية معينة، ففي كل منطقة أومالا لا يوجد بئر مثله، ينبوعي (فوّار). لأن طبيعة الأرض في ذلك الموضع، لم تكن تسمح بذلك.

ومراتٍ كثيرة – بعد موت القديس – عندما كان الكهنة يضعون جسده فوق البئر ليعملوا تضرعاً ما، كانت مياهه ترتفع لتصل إلى أعلى مستوى، وحين كانوا يرفعون الجسد عن البئر، كان منسوب الماء يعود إلى وضعه الطبيعي.

ولكن الشيطان، مُبغض الخير، كان قد دفع بالأب جاورجيوس أن يحسد عمل القديس جراسيموس، وهذا بدوره حرض القرويين ليضعوا عوائق في مسيرة القديس، الذي عاش ناسكاً بأصوام وأتعاب وسهرانيات طوال الليل. لكن القرويين ندموا على فعلتهم بسرعة حين تأكدوا من أن جراسيموس كان بالحقيقة ناسكاً، وقديساً يعيش في منطقتهم! ولهذا طلبوا منه المغفرة منه، فسامحهم. وكانت هذه القضية قد وصلت أيضاً إلى محكمة الاستئناف في مدينة البندقية، فبُرر القديس من المحكمة أيضاً.

القديس يشيّد ديراً
كانت شُهرة القديس وقداسته قد جلبتا أناساً كثيرين إلى هذه الأماكن الموحشة من الجزيرة. فبعضهم أتّى ليسمع الوعظ، والبعض الآخر ليعترف، ومنهم من أتى ليسترشد بنصحه، وآخرون ليروه بعيونهم عن قُرب. وبشكل أساسي كان يذهب إلى القديس عذارى ممن أرادوا أن يصبحوا راهبات.


ففكر القديس أنه في ذلك المكان الجبلي المليء بالصخور، يجب بناء ميناء للنفوس المتعبة والغارقة. وعلى العجل وضع الأمر موضع التنفيذ. وفي فترة زمنية قصيرة كانت الكنيسة الصغيرة قد توسعت، وشُيّدت حولها القلالي. وأول من دخل وسكن الدير، كانت الراهبتان أختا الأب جاورجيوس. وشيئاً فشيئاً كان عدد الراهبات يزداد، حتى بلغ الخمس والعشرين راهبة. وأما الدير فقد أسماه (( أورشليم الجديدة )).

كان القديس يعتني بالناس كثيراً، وخصوصاً تلك النفوس العذراوية التي عاشت بقربه، فكان يسهر ويصلي من أجلها، مُدركاً أنه مسؤول عنها، وأن من واجبه أن يقودها إلى الفردوس.لذلك كان يصلي من أجلها. كان يصلي في الصلوات الجماعية، ولكنه أيضاً كان يقيم صلوات خاصة، مُذكراً نفسه دائماً بأن هؤلاء من أجل المسيح تركوا كل شيء، ويجب أن يتكرسوا للمسيح بشكل كامل.

أعجوبة المطر
من المعروف أن جزيرة كيفالينيا تعاني من قلة المطر. وكثيراً ما كان الجفاف الذي يُصيبها يبعث اليأس في النفوس. وبما أن الموسم الزراعي فيها يعتمد على البقول، فيمكننا أن نتصور مقدار الخراب الذي كانت تعانيه عندما لا يسقط مطر.


وفي وقت ما، عندما كان المطر قليلاً، التجأ الناس إلى الله، فعملوا تضرعات، وصلوات ابتهالية وزياحات كل يوم، ولكن عطية المطر الكبرى لم تظهر.


عندها توجه الكل إلى الناسك القديس راجين إياه أن يصلي هو أيضاً إلى الله، حتى يمن عليهم بالمطر. في البداية، ومن شدة تواضعه، طردهم. ولكنهم أصروا عليه، فاضطر أن يخضع لرغبتهم. سجد القديس مع جميع الناس، وبكى وصلى بحرارة، ففتحت السماء شلالاتها، وروّت الأرض العطشى، وأما الشعب فتعزى، وفرح وصار يجول في بيوته مسروراً ممجداً الله.


وليس هذا فقط، بل أن الله كان قد منح القديس مواهب كثيرة. فكان الناس المرضى، والمتعبون، والبائسون الذين عانوا من لعنات وأمراض، يلتجئون إليه. وهو كطبيب بارع، كان يشفيهم. وبشكل خاص كان الله قد منَّ عليه بموهبة إخراج الأرواح الشريرة من المصابين بالشياطين.


حتى أن الشياطين أنفسهم كانوا يسمونه في كثير من الأحيان كبساليس، أي المُحرِق.

رقاده
أتت الساعة – كما تأتي لكل واحد منا – حتى يترك القديس هذا العالم الوقتي الزائل. أتت الساعة ليصيبه النصيب المشترك، أي الموت.





وكاهن القديس قد فهم بدقة أنه سيموت. فدعا أولاده الروحيين، أي الراهبات، وأعطاهم وصاياه وإرشاداته الأخيرة. عاد وأكد لهم وذكّرهم بالسبب الذي من أجله تركوا العالم. وبما أنهم خسروا العالم الحاضر، يجب عليهم الآن من خلال حياة الفضيلة أن يربحوا العالم السماوي الدهري، غير الفاني. نصحهم بأن يحافظوا على السلام والمحبة فيما بينهم، وعلى الإيمان بالمسيح غير متزعزع.

وهكذا أغلق الناس القديس عينيه، مُودعاً روحه في يدي الخالق، الذي أحبه وخدمه بغيرة كبيرة، فصعدت نفسه بشوق قرب العرش الإلهي. رقد في الخامس عشر من شهر آب عام 1579م


بعد مضي سنتين على الدفن، لم ينحل جسده، بل صار محجاً لكثيرين، مظهراً بهذا علامة قداسته. ولكن جبرائيل مطران فيلادلفية شكك بهذا الأمر، ولم يؤمن به، فأمر بإعادة الدفن مع ترك الجسد مدفوناً لمدة ثمانية أشهر. وماذا حدث؟! ظهر الجسد ثانية إلى النور، مع كل براهين القداسة!. ومنذ ذلك الوقت صار الجسد الموقر يشكل ميراثاً ثميناً لجزيرة كيفالينيا، ولكل الكنيسة الأرثوذكسية.


وكان سكان الجزيرة منذ البداية يوقرون القديس. حتى أن الحكومة الإنكليزية – اليونانية في الجزر السبعة، كانت أيضاً قد أصدرت قراراً أنه، خلال الأيام السبعة التي كان يُعرض فيها جسد القديس للسجود له من قِبل المؤمنين، بالإضافة إلى الأيام التي نعيّد فيها للقديس، تكون هناك عطلة لكل دوائر الدولة، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين.

عيده
بما أننا في الخامس عشر من شهر آب، نُعيّد لرقاد السيدة العذراء، فإن عيد القديس يُنقل إلى اليوم التالي، أي السادس عشر من شهر آب. وأما في اليوم العشرين من شهر تشرين الأول فنعيّد لنقل بقايا القديس.

بعض من عجائبه
إن الأعجوبة الأكبر والأعظم هي بقاء جسد القديس صحيحاً كاملاً إلى يومنا هذا، بحيث يتشدد في إيمانهم المستقيم الرأي الذين يروه.


أما عجائب القديس الأخرى فهي كثيرة جداً، يذكر منها جرمانوس مطران جزيرة كيفالينيا في عام 1938م، مئة وعشر من أهم الأعاجيب التي أجراها القديس. بينما سنكتفي نحن بسرد القليل منها.


أعجوبة شفاء المصابة بالشياطين:
بعد رقاد القديس بوقت قليل، جاءت إلى الدير امرأة مصابة بروح شرير. وكل يوم كانت تصلي راكعة أمام قبر القديس، وراجية الله أن يمنحها الصحة، معتقاً إياها من الروح النجس. وفي إحدى الليالي عذبها الشيطان بشكل فظيع، حتى أنه شدها بقوة، وعلقها داخل البئر الموجود في ساحة الدير الخارجية.


وبالطبع لم يكن من المعقول أن يترك القديس تلك النفس المتعبة المعذبة. ففي نفس اللحظة سمعت الراهبات في الدير صوت القديس الذي سبق أن اعتدن سماعه، يقول لهم: (( أسرعوا لتساعدوا المرأة المصابة بالشياطين، لأنها في خطر )).


فاستيقظت الراهبات على عجَل، وأخذن مصابيحهن وأسرعن للبحث، مفتشين في كل مكان. انحنين ونظرن أيضاً في البئر، فماذا رأين!! رأين المرأة المصابة بالشياطين واقفة على سطح الماء، وكأن شخصاً ما يمسك بها، وهي تصرخ: (( ارموا لي حبلاً لأخرج ))!


رمين لها الحبل، فخرجت وهي تبكي. ولم تكن تبكي من الحزن، بل من الفرح والسرور. وعندما روت أمام الجميع كل ما حدث معها. وكيف رمى بها الشيطان في البئر، وإذ براهب يمسك بها، ويبقيها واقفة على سطح الماء، ويشجعها قائلاً:

(( لا تخافي فلن يصيبك مكروه. لقد تحررت من الروح النجسة )). وفي اللحظة التي أُلقي فيها الحبل، اختفى الراهب.
وهكذا أسرع الجميع بفرح إلى الكنيسة، ليشكروا الله والقديس.


الطفل وحجاب المرأة التركية:
في عام 1781م أحضروا إلى الدير قروياً، يدعى جاورجيوس. هذا كان مريضاً جداً ومنهكاً من شدة المرض. وكانت تبدو عليه شبه علامات الجنون. وبالأحرى كان يسكن فيه شيطان يجعل جسمه يرتجف ويتوتر بأكمله، فيظهر بمظهر محزن جداً.


بقي الصبي في الدير بدون أي معالجة. حتى مر كاهن الدير في أحد الأيام من قربه، ورآه يبكي بأسى فسأله:
ما لك يا جاورجيوس؟ لماذا تبكي؟


وتسألني ما لي؟ ... أيها الأب؟ لقد صار لي كل هذا الوقت هنا، ولم أرَ أي تحسن. بينما يأتي آخرون بعدي ويُشفَون.
هل اقترفت خطيئة ما، يا بني، ولم تعترف بها حتى الآن؟ هل نسيت واحدة بدون اعتراف؟
لا أتذكر شيئاً آخر، أيها الأب! بل كل ما أتذكره هو أني عندما مرضت بهذا المرض، ذهبت إلى امرأة تركية فعملت لي هذا الحجاب.


ونزع الولد من صدره الحجاب الذي كان فيه خيطاً معقوداً وورقة كُتب عليها بأحرف تركية، وأعطاه للكاهن. عنها أخذ الكاهن الصبي، وأوقفه أمام قبر القديس، وجعله يعترف. وفي القداس الإلهي، وأمام أعين الجميع، أحرق الكاهن الحجاب. في نفس الليلة ظهر القديس جراسيموس للصبي، وباركه وأعتقه من مرضه العسير. فمجد الجميع الله.

شفاء الفتاة المصابة بمرض الجدري:
أُصيبت إحدى الفتيات بمرض الجدري. وبعد مرور فترة شهر على مرضها، أُصيبت بالعمى. فكان حزنها وأساها عظيمين.


ويوماً ما رأت في الحلم راهباً، يقول لها: "اذهبي إلى جزيرة كيفالينيا. وهناك سيشفيك جراسيموس". وحالما استيقظت، روت لأهلها ما رأت في الحلم. فذهبوا معاً إلى دير القديس. جلسوا هناك سنة كاملة لم يحدث خلاله أي تحسن، لكنهم لم يفقدوا رجائهم وثقتهم بالقديس.

وهكذا ففي ليلة من الليالي، رأت الفتاة القديس مرة أخرى في الحلم، قائلاً لها: "قومي يا ابنتي، واذهبي إلى بيتك، فإنك معافاة".


نهضت الفتاة من فراشها. فتحت عيناها، وإذ بها تبصر، فأخذت تصرخ من شدة الفرح، وعلى صراخها استيقظ كل من في الدير. لقد كان فرحها لا يوصف.بعد ذلك غادرت مع أهلها إلى بلدهم. وبعد عشرين شهراً تزوجت. وكعربون شكر للقديس، أتت مع زوجها إلى الدير، وسجدا لجسد القديس ممجدين الله.


أولغا المصابة بالشيطان:
كانت الفتاة ألغا مصابة منذ عام 1918م بشيطان خطير. وفي أحد الأيام قرر أقاربها أن يأخذوها إلى القديس جراسيموس. ولما وصلوا إلى مينا إيتوليكوس الذي كانوا سيغادرون منه، فجأةً، رفضت أولغا أن تدخل السفينة. وبدون أي سبب، رفضت فكرة الفرز وأما أقاربها فلم يعرفوا كيف يواجهون رفضها هذا.

لكنها خلال وقت قصير صارت تضحك بشدة، ودخلت وحدها إلى السفينة، قائلة: "اليوم سأغرقكم كلكم".
المسافرون معها لم يعيروا اهتماماً لهذه الكلمات. لأن الطقس كان هادئاً، والبحر كان جيداً. ولكنهم عندما ابتعدوا عن الشاطئ بمسافة كبيرة، فجأةً، هبت عاصفة كبيرة، وملأ الماء سطح السفينة، فأوشك الكل على الغرق. وحدها الفتاة المصابة بالشيطان كانت جالسة في إحدى الزوايا، وهي تضحك فرحة، وتقول: "سأغرقكم كلكم ... اليوم سأغرقكم كلكم".


عنها ركع الجميع وصاروا يبتهلون إلى القديس جراسيموس لينقذهم. وبعد لحظات رأوا أولغا قد صمتت، ثم سكنت الريح. عندها سمعوا أولغا تقول: "كنت سأغرقكم لولا أن القديس جراسيموس أمسك دفة السفينة، وهدأ الريح!".

فبشفاعة قديسك جراسيموس

أيها الرب يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلصنا

آمين


مع محبتي للجميع

سامر يوسف الياس مصلح

ليست هناك تعليقات: