أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 مارس 2011

الصوم الأربعيني المقدس

تاريخ الصـوم

الصوم هو ظاهرة بشرية ارتبطتْ مع كل الأديان. وتعددت أشكاله ومفاهيمه بتعدد هذه الأديان. وفي المسيحية يحتل الصوم أهمية خاصة. فعندما عجز التلاميذ عن طرد الشيطان مرةً، سألوا الربّ يسوع بعد أن أخرجه، "لماذا لم نستطع نحن؟"، أجابهم: "إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" .

وهذه الأهمية يشهد لها الكتاب المقدس بعهديه. كما نجد أن هناك ثمة تطوّر في فهم معنى الصوم وممارسته، بلغ ذروته في زمن العهد الجديد، عهد النعمة، وفسّره التقليد النسكي الشرقي بخاصة. إن عالمنا الحالي، وخاصة الغربي وبعض المسيحيين بتأثير منه، لا يعطون للصوم قدره الحقيقي ويجهلون معناه الصحيح.

لذلك وإن امتدحوا الاعتدال بالطعام ونظمّوا له ضوابط وحميّة (Régime) خاصاً، غدا أغلب الناس يملكون نماذج منه، فإنهم يعتبرون الصوم تعذيباً للجسد ومضرّاً للصحة ولا يرون فيه فائدة روحية؛ وقد يعتبرونه في أفضل الأحوال ممارسة دينية لا يعرفون ضرورتها إلا "الشرعية"، ولا يدركون فائدتها لذلك قد يبدو لهم مجرّد فرائض دينية ضد الجسد وملذاته تتطلبها بعض القساوة التي في الدين.



بالطبع ليس الصوم مجرّد "حرمانات" أو "كبتاً" أو "تعذيباً" أو كما يعتبره البعض استغفاراً! إن للصوم معنى ً أنثروبولوجياً (علم الإنسان) وروحياً عميقاً جداً، لذلك يستحق أن نفهم دوره الحقيقي في حياتنا وبالتالي نكتشف ضرورته، ونحدّد إذن كيفية ممارسته. لهذا يتوجب علينا أولاً تحديد معنى الصوم وممارسته في الأديان عامة، وفي العهد القديم، ثم الجديد خاصة.

وأن تتوقف بعدها على البعد الأنثروبولوجي الروحي كما يفسّره النساك والقديسون في تقليدنا الشريف.الصوم هو إشراك للجسد في العبادة، والترّفع عن بعض متطلباته رغبة منا في التعبير عن معانٍ روحية نحو الله. فلما كان الإنسان نفساً وجسداً كياناً واحداً، كان من العبث أن نتصّور ديانة روحية محضة. إن النفس لكي تلتزم بشيء ما وتعبّر عنه تحتاج إلى أفعال الجسد وأوضاعه الخارجية.

لذلك يُعبَّر عن الاحترام (موضوع روحي) مثلاً باللباس والانحناء أو السجود، وعن الفرح بالألوان وأشكال واحتفالات، وعن الحزن بالصوم واللباس... الخ. يعبّر داؤود النبي عن شوقه إلى الله فيقول: "عطشت إليك نفسي وتاق كثيراً إليك جسدي".

يتم الصوم بأحد شكلين، "الانقطاعي" و"الامتناعي"، أو بالشكلين معاً. أي الانقطاع عن الطعام والشراب، وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسية خلال فترة محدّدة. أو بالامتناع عن بعض الأنواع من المأكولات.




1. الصوم في الأديان
كان الكهنة قديماً بمعظمهم من الأطباء، لذلك ترافق الصوم قديماً مع مفهوم الصحّة، وكان المصريون يصومون فترات تتراوح بين 6 أيام وبين 7 أسابيع. وصام اليونان دائماً قبل الحروب.

وصام الرومان قبل أعياد ذيمترا (Δήμητρα) وذيّوس (Δίος). ويلاحظ مؤرخو الأديان أن الصوم كان يحتل مكاناً هاماً في الممارسات الدينية بدافع النسك والتطهير والحداد والتوسل إلى الله والاعتراف بالضعة البشرية والسموّ الإلهي.
2. الصوم في العهد القديم

صام اليهود في العهد القديم عدة أصوام قبالة الأعياد الكبرى لديهم. فصاموا يوماً واحداً قبل عيد الغفران،وذلك للتواضع أمام الله،وصاموا جماعياً في ذكرى النكبات الوطنية بعد السبي. ويتكلم داؤود النبي في المزامير عن أصوام كثيرة "حتى كلّت ركبتيَّ من الصوم".

ويبدو أن اليهودية كانت قد حددت صوم يوم الخميس أسبوعياً. أما الفريسيون فكانوا يضيفون عليها يوم الاثنين أيضاً، وذلك إحياءً لذكرى صعود موسى إلى الجبل ونزوله منه. لهذا ادّعى الفريسيّ أمام الله أنه يصوم مرتين في الأسبوع وليس مرة واحدة كما العامة من الناس.

ويذكر إنجيل لوقا حنّة النبيّة وتلامذة يوحنا المعمدان. كما يتضح أن جماعة الأسّانيين كانوا يصومون كثيراً وينقطعون كلّياً عن اللحم والخمر. وهناك "أربعينيات" مقدسة صامها كبارُ الأنبياء مثل موسى،وإيليا.وعلى غرارهم صام يسوع.
بالطبع إن هذا الامتناع عن الأكل لا يعني احتقاراً للمادة بل هو بسبب من دوافع روحية خاصة. لأنه بالصوم يتجه الإنسان نحو الربّ أو يطلب الغفران أو يلتمس شفاءً أو يعبّر عن حزنه أو لوقف كارثة ما،كما يمكن أن نصوم من أجل فتح القلب على النور الإلهي وخاصة للاستعداد من أجل ملاقاة الله.كانت الأصوام اليهودية تقوم على تأخير الوجبات (انقطاع) إلى المساء واختصارها. كما كانت تُمنع الزيجات في الصوم.


3. الصوم في العهد الجديد

صام يسوع "الأربعينية" كما موسى وإيليا، لكنه يظهر أنه لم يشدّد على حفظ أصوام العهد القديم والعادات اليهودية بل وكأنه في بعض المرات كان يدعو لتجاوزها. ومع ذلك فإن نوعاً من التقشف والنسك ساد تعاليمه، فهو لم يأتِ لينقض وإنما جاء ليتمّم.
وعلّمنا أن نصلي ونطلب من أجل الخبز الكافي لليوم فقط وأن نطلب أولاً ملكوت الله وبرّه أولاً وبعدها أي شيء آخر. ويبدو أنه كان، كما في كل تعليمه، يجدّد في روحانية الصوم فيشدّد على "التجرّد" والترّفع وتجنب بعض الأخطار التي كانت تترافق مع "الأصوام"، مثل خطر التمسك بالشكليات والكبرياء، أي الصوم "لكي نظهر للناس صائمين". وكان يدعو لأن نصوم بكتمان وتواضع، أي لله: "فمتى صمتم لا تكونوا عابسين كالمرائين... بل لأبيك الذي في الخفاء".

ولقد حافظت الكنيسة في القرون الأولى على الأصوام اليهودية ولكن بالروح التي أملاها عليهم يسوع. وهناك ذكر لأصوام في سفر أعمال الرسل كانت تتطلبها بعض الاحتفالات والحالات الخاصة:

"بينما هم يخدمون الربّ ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذٍ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما".
لقد سبق يسوع ودافع عن تلاميذه أمام اتهامات اليهود عليهم بأنهم لا يصومون كتلامذة يوحنا، لكنه قال: "مادام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن يرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون". فإلى أن يأتي إلينا العريس من جديد، سيبقى الصوم يحتفظ بمكانة خاصة في الكنيسة.
لم يكتفِ بولس- على ما يبدو- بالأصوام العادية، فرغم العطش والجوع والأسفار، أضاف إلى ذلك أصواماً عديدة.لقد استلمتْ الكنيسة هذا التقليد وتابعت الأصوام التي في اليهودية بالروح التي جدّدها المسيح، فصار الصوم "أداةَ توبة" وليس "مفخرةَ تبرير".

ولهذا مالت الكنيسة في أيامها الأولى إلى إبراز هذا التجديد، لكي لا توضع رقعةٌ جديدة في قطعةٍ قديمة. لهذا يذكر كتاب "تعليم الرسل الاثني عشر" (القرن الأول): "صوموا الأربعاء (التسليم) والجمعة (الصلب) على خلاف اليهود المرائين".وتكرر "الأوامر الرسولية" (القرن الرابع) الوصية بالصيام.

ونجد عند القديس أبيفانيوس أن صوم الأربعاء والجمعة هو تقليد رسولي،لقد تمحورت الأصوام في الكنيسة حول العيد الأهم، موت وقيامة المسيح. ويذكر يوستينوس الشهيد والفيلسوف، أن المسيحيين حفظوا هذا الصوم بشدة وقساوة.لم تكن فترة الصوم قبل الفصح محددة حتى القرن الرابع.
حينما، مع تنصير الإمبراطورية، حُددٍّت بـ 40 يوماً فكانت اقتداء بالأربعينات المقدسة لموسى وإيليا وخاصة يسوع. يرد ذكر هذا الصوم في المجمع المسكوني الأول النيقاوي (325) وفي القانون الخامس من مجمع اللاذقية المحلي (364). وصارت هذه الأربعينية تسبق الأسبوع العظيم والفصح.
وبالإضافة إلى هذا "الصوم الكبير"، الذي دُعي هكذا لأهميته ولطول فترته، هناك أمام كل الأعياد الأساسية أصوماً تمهيدية، قبل أعياد الميلاد و رقاد السيدة و الرسل. وهناك أصوام في برامون الأعياد الكبرى وسواها وفي عيد قطع رأس يوحنا المعمدان، الخ... هكذا يتّضح لنا كمْ يحتل الصوم مكانة روحية خاصة في حياة الكنيسة منذ العهد القديم مروراً بيسوع المسيح والرسل والتقليد الشريف.
لهذا علينا بالتالي أن نتلّمس الروح الحقيقية للصوم، وذلك لفهم معناه الحقيقي وضرورته وكيفية ممارسته بالنهاية، لننال ثماره الصالحة. رغم أن للصوم وجه كنسي عام (تقليد) فله أيضاً وجه خاص. فإذا كان الوجه العام يشير إلى مشاركتنا مع الكنيسة جمعاء ويثبّت عضويتَنا فيها، فإن وجهه الخاص يفتح الفرصة إلى "الاختبار الشخصي" العميق للحياة بالروح.
لقد صام آدم في الفردوس تماشياً مع الوصية والرغبة الإلهية، وذلك قبل وجود الخطيئة ووجود حاجة للاستغفار أو وجود الحلال والحرام والطاهر والنجس! وهذه الملاحظة تقودنا إذن إلى التساؤل عن غاية الصوم الحقيقية، والتي كانت منذ البدء قبل السقوط، مهما دخلت على معانيه ممارسات جديدة بعد السقوط أيضاً. سنناقش الصوم إذن من أبعاده النسكية العميقة، وذلك بناءً على المفهوم الأنثروبولوجي النسكي الشرقي الأرثوذكسي.

انطلاقاً إذن من صوم آدم في الفردوس، نعترف أن للصوم دورٌ وضرورةٌ غير الاستغفار والأعياد وسواها، على ضرورة هذه الدوافع الأخيرة. فللصوم إذن وجه إيجابي أصيل قبل الوجوه السلبية الدخيلة بعد السقوط والتي تمارسها الأديان كافة. لقد كان طريقةَ الحياة الفردوسية.لا بل إن كثيراً من الآباء القديسين يشددون: بما أن السقوط كان بسبب كسر الصوم فإن العودة والتوبة يجب أن تبدأ من حيث سقطنا أي من الصوم.
"إن أول وصية وُضعت لطبيعتنا منذ البداية كانت عدم تذوّق بعض الطعام، ومن هنا سقط أول بني جنسنا. لذلك فإن أولئك الذين يجاهدون من أجل محبة الله يجب أن يبدأوا من حيث كانت أول ضربة" (اسحق السرياني). إذن يدخل الصوم في الحياة الكنسية كـ "دواء" و"حلّ" لحالة الإنسان الساقطة، فهو طريقة علاج وشفاء وهو أكثر بكثير من مجرّد ممارسات دينية إسترضائية للغضب الإلهي.

إنه إذن رياضة روحية تمسّ عمق أعماق الكيان البشري لكي تصلحه، وليس بالأحرى واجبٌ مفروض على حالة خاطئة (الخطيئة) وإنما هو الحالة الأصيلة للحياة البشرية كما كانت عند آدم في الفردوس. إذن للصوم بعدٌ أنثروبولوجي عميق جداً، وسنحاول أن نعالجه على أساس هذا المفهوم للكائن البشري. الصوم هو حركة "روحانية" أي عودة بالإنسان من "حالته الحالية اللاطبيعية" إلى "الحالة الإنسانية الأصلية".
القراءة الروحية للصـوم

"حلَّ آدم الصومَ وسقط"! تخفي هذه الكلمات في طياتها معانٍ عميقة تتجاوز كثيراً المعنى القضائي للتعدّي على الوصية. إنها حقيقة استبدال حياة بأخرى. لقد أوصى الله (وهذا هو الخير) آدمَ بوصيةِ الصيام كطريقةِ حياةٍ: "من كل شجر الجنة تأكل إلا من هذه الشجرة". لكن آدم اختار طريقةً مغايرة ثانية للحياة، لقد تصرف ليس بحسب الوصية إنما بحسب "كل ما هو شهي للمنظر".
لم تكن هذه الشجرة (معرفة الخير والشر) ذات طبيعة خاصة بها أو كان لها ثمارٌ تجلب الموت! لقد كانت شجرة "لـ" معرفة الخير والشر، كانت مفترقَ طرقٍ بين اتجاهين إلى طريقتي حياة متغايرتين، تلك التي مع الصوم وهذه التي مع كل ما هو شهي للمنظر.لقد كان قرار آدم تفضيل حياة الحواس على إحياء العلاقة مع الله!
لقد حوّل حركاته الداخلية (عشقه و اهتمامه) من الله إلى المادة. بعد أن أُعطيت له المادةُ هديةً إلهيةً، العالمَ وكلَّ ما فيه، أراد هو أن يأخذها لذاته غاية، فلم تعد تشبع حاجاته وحسب، ولكنها بقراره صارت "شهية للمنظر" تستملك أهواءه وميوله ورغباته. كان السقوط اختياراً خاطئاً في استخدام العالم. وهذا ما يعنيه "حلّ الصوم" أو الوصيّة.

بينما كانت الوصية هي إشارة إلى طريقة استخدام العالم بحقيقته كصلة وعمل مشترك بين الله والإنسان. لقد كان مقدَّراً للعالم أن يُدخل الإنسان مع الله في شركة، وهذه هي حالة استخدامه الصيامية، لكن تداعي آدم أمام الحواس جعل العالمَ أداةَ فصلٍ بينه وبين الله. لقد كان السقوط سعياً للتأله قبل أوانه وخارج طريقه.
كان طريقاً للتأله مبنيّاً على تأليه الحواس، لكنَّ الحسّيات تعيدنا إلى العالم ولا ترفعنا إلى الله. لقد أضحت الخليقة صنارة شيطانية اصطادت الإنسان، فانحرفت هكذا ميولُه من الرغبات الأصلية إلى مجرّد الأمور المادية. استبدل الشيطان للإنسان مُثُلََه وأولوياته، فأضحى العالمُ بعد أن كان هديةً إلهيةً سيعيدها الإنسان قرباناً صار أداةً للغواية والخدعة الشيطانية.
فالتصقت حياة الإنسان بالماديات وانغلب الروح أمام المادة. وتركزَّت الاهتماماتُ البشرية حول الحسّيات وضاعت الحضرة الإلهية. حتى أن آدم عندما عاد وسمع خطوات الله، بعد أن مال إلى إشباع الشهوات، اختبأ. لأن هذه الحضرة التي كانت كلَّ حياته سابقاً صارت مقلقةً ومزعجة لثمرة هذه الشجرة، الشهوة! عندما ضلَّ الإنسان استُبدٍلتْ شركتُه مع الله بشركتِه مع الماديات والعالميات.
لهذا يعتبر آباؤنا القديسون أن سقوط الإنسان أدى إلى سيطرة "ثلاثة أهواء جبابرة" تتفرَّع عنها كلُّ المشاكل وتتلخص فيها كل أسباب النـزوات والأخطاء. وهذه الأهواء هي الجهل (بسبب الخدعة) والنسيان (بسبب الانشغال بالماديات) وأخيراً الكسل (لأن المادة بدون الصوم لا تعطي روحاً).

ولم تعد أشواق الإنسان إلى الله، بعدما استبدلَها باشتهاء الحسّيات، لم تعد تكفيه لسعيه إلى غايته الحقيقية. وصارت طاقات الإنسان موزّعة بين الله والدنيا، بينما كان يُفترض على الإنسان أن يحبَّ الله فقط ويتناول حاجته من العالم دون غواية، أي بعفّة. لقد أراد آدمُ أن يتأله دون صوم، أي حاول أن يصل إلى غاياته دون سعي وتعب، وكأنَّ المسألةَ سحريةٌ مجرّد أن نشتهي العالم (نتناول من الثمرة ونشتهيها) نصير عارفين للخير والشر- آلهةً.



لقد استعاض عن أتعاب الحياة الروحية (وصية الصوم) بالسحر (الشهوة)، والسحر لا يحقق حقيقة. المسألة هي أن نحدّد غاية حياتنا؟ أهو الله أم هي المادة؟ وهذا يجيب على هل نحن صائمون أم لا! لقد أخرج آدمُ اللهََ من حياته وأدخل الحسيّات، ونحن نصوم لكي نحيا حياة آدم الفردوسية الإنسانية الأصيلة، فندخل الله إلى حياتنا ولا نجعل الأطعمة والحسيّات تأخذ اهتمامنا.
وحتى حين نتناول العالم فإننا لا نأخذ لنا أية مادة منه قبل أن نروْحِنها، أي نستخدمها كأداة صلة مع الله وشكر له.
الصوم إذن هو حركة لنغلِّبَ الروحَ على المادة، إنه سعي إلى القيامة الروحية. لا يمكن للإنسان أن يتلمَّس مقدار تسلّط هذه الأهواء الثلاثة (الجهل والنسيان والكسل) دون "الاعتراف"، أي العودة إلى الذات والله، وهذه الأخيرة تستخدم العالم كتذكرة بالله وليس كانشغال عنه، والصوم هو طريقة تحويل هذه المادة إلى هذه الآلة بعد أن كانت غواية. لا يعني الصوم هجر المادة بل الترّفع والزهد عن غوايتها. فتلك مباركة وهذه غباوة.

1. شفاء الجهل

"يا جاهل"! بهذه الكلمة عبرَّ يسوع عمن أراد أن "يغتني لنفسه وليس بالله".لقد أخطأ آدم الخيار بين طريقتين في الحياة، فصار جاهلاً! ولما تمادى في الخضوع للحسيّات جعلت هذه الأخيرة ذهنه أكثر ظلاماً و"غباوة". لذلك يقول الراهب بيمين: "لولا أن نبوزردان رئيس طباخي البابليين لم يذهب إلى أورشليم لما احترق المعبد"، مشيراً بذلك إلى مدى تأثير التهافت لإشباع لذة الجوف على الصفاء الروحي والحرية الداخلية:

"هكذا الإنسان لا يحترق إذا لم تسيطر عليه شهوة الطعام".

ويتكلم الأدب الرهباني عن حالات دقيقة جداً ومرهفة. لقد زار أحد الرهبان مرة الأب أشعياء في زمن صيام فقدّم له هذا الأب قليلاً من العدس. ولما ذاق الراهب الطعام قال للأب أشعياء: كان يحتاج لبعض السلق أيضاً". فأجابه الأب: اشكر الله يا بني أننا قدمنا لك اليوم مائدة فصحية، هذا يكفينا.

نعم يدقق النسك الرهباني على وجود هذا الهوى حتى في حالات كهذه. الصوم يعني التخلي عن "الشهوة" وليس عن الطعام بحدّ ذاته، وإن كانت تلك الشهوة لا تغادرنا قبل أن نتجرّد عن الأطعمة نوعاً وكمّاً. ولكن ترك الأطعمة والمحافظة على شهوتها هو صيام ناقص، أو غير ناضج تماماً. ويروى أن أباً راهباً اصطحب في الصيام معه تلميذه إلى عيد دير مجاور؛ وكانت العادة في الأعياد أن يمدّ الرهبان مائدة الطعام مباشرة بعد القداس الاحتفالي أي عند الظهيرة.
وهذا ما حصل تماماً. لكن التلميذ تردّد في تناول الطعام لأن صومهم كان يستّمر بالعادة حتى الغروب كما في الأديار. ولهذا قرر أن يتناول من المائدة فقط في حال أن معلمه الأب يتناول منها. وبالطبع جلس الجميع والأب معهم إلى المائدة وتناولوا طعام العيد، ومثلهم صنع هذا الراهب التلميذ.
ثم في طريق العودة مع معلمه بلغا إلى عين ماء، وكان العطش قد أضناه، فاستأذن التلميذُ من معلمه أن ينتظره حتى يشرب، فقال له المعلم: ألسنا في صيام؟ قال التلميذ، لقد تناولنا ظهراً الطعام! أجاب الأب: نعم يا بني هناك كسرنا صومنا من أجل المحبة، ولكن هنا أنت تحلُّه من أجل الشهوة! أول دور للصيام هو تحويل الذهن من العالم إلى الله،وهذا ليس بالضرورة عن طريق ترك العالم، إلاّ تدبيرياً حين يتحتّم ذلك.

لذلك يعترف الأدب الرهباني أن الراهب لا يحرق عشقه ولكنه يحوَّله "فيستبدل عشقاً بعشق". بالصوم يعرف الإنسان الشهوة الحقيقية- العشق الإلهي. الصوم يُصلح "التهذيب" و"الذوق". لقد كان السقوط انحرافاً في الذوق ويأتي الصوم ليُصلح هذا الذوق البشري المخدوع.

بالصوم يؤكد الإنسان لذاته أنه "لا يحيا بالخبز وحده بل بالأحرى على كل كلمة تخرج من فم الله". يكّون الصوم هذه الحكمة. ولا تأتي حكمة كهذه دون تعاطٍ مع العالم كهذا. إن صوم الجسد يشدّد الذهن،إن الصوم يحرّر الإنسان من الجهل ويخلق فيه "النبوّة.
يحدّد لنا الصوم "خبزنا الجوهري" ويرتب أولويات اهتماماتنا وحدود كل اهتمام منها ومساحته في زمن حياتنا. لهذا بالصوم رتبَّت الكنيسة أن يزداد تواتر المؤمنين على الكأس المقدسة وأدخلت "قداس السابق تقديسه". ولعلّ التقشف والبساطة في الصوم هما أحوج الأمور إلينا للردّ على تسلط هوس "الرفاهية" في حياة الناس اليوم. يعيد الصوم نهاية "السباق" إلى مبتغاه الصحيح.
يتسابق الناسُ اليوم على تأمين "الرفاهيّات" في الحياة، وصارت الكماليات أساسيات ولو اضطرتنا إلى التضحية بكل ما هو أساسي في حياتنا من الراحة والعلاقات الاجتماعية الضرورية. إن صنم "الكماليات" وطلب "السهل" صار إلهَ هذا العصر، ولا تحطِّمه إلا بساطة الحياة وتقشف المعيشة في الصوم. لقد بات الصوم اليوم أكثر ضرورة من أي زمن أسبق، وذلك بسبب هيمنة الشهوة والطيَّب للنظر والحواس على مجتمعاتنا وعلى مفاهيمنا.
يتراكض الناس ولكن في اتجاهات "ضالّة"، ويتسابقون على اقتناء "الكماليات"، بينما يعيدنا الصوم إلى السعي لاقتناء الخبز الجوهري والتسابق في طرق الفضيلة. إن حكمة الناس في دهر الكماليات هي "كلْ بقدر ما تستطيع" أي لأكبر حدٍّ ممكن طبيعياً أو غير مضرٍّ صحياً. لكن حكمة الإنسان في الصوم هي "صمْ قدر ما تستطيع"، أي لا تأكل قدر ما تستطيع بِشْرتُك.
تتبدّل في الصوم النظرة إلى الحياة في غاياتها وفي مصادرها. "في بطن امتلأ من الأطعمة لن يوجد مكانٌ لمعرفة أسرار الله"، كما يقول القديس اسحق السرياني. لذلك يترافق الصوم مع الصلاة (الخبز الجوهري) ومع أعمال الإحسان.
فتتحوّل طاقات النفس وملكاتها وممتلكاتها نحو غاياتها الصحيحة نحو الله والقريب، نحو بناء علاقة وليس بناء ملكِيات. يفتح الصوم الإنسان على عالم الآخر، الله والقريب "قيمة الصوم ليست بالابتعاد عن المآكل بقدر ما هو الابتعاد عن الخطايا... فماذا يُفيدنا الإعراض عن أكل لحوم الخنازير والسمك حين نأكل لحوم أخينا الإنسان"، يقول القديس باسيليوس الكبير.
وغياب الصوم يغلق الإنسان على ذاته التي لا تشبع وتجعل القريب جحيماً والله مغيَّباً. يختبر الإنسان في الصوم القول المسيحي "يا رب خلقتنا ميّالين إليك ولن نرتاح إلاّ بك". أليست هذه الحكمة أساسية في الحياة؟ أو ليسَ غيابها جهالة فظيعة وظلم في حق الحياة البشرية.
مع محبتي للجميع بالمسيح يسوع آمين
كل عام و الجميع بألف خير

صوم مبارك للجميع

ليست هناك تعليقات: