أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 26 مايو 2012

أحد الآباء - الأحد قبل عيد العنصرة

رسالة الأحد السادس المعروف بأحد الآباء

مبارك أنت يا رب إله آبائنا
ستيخن: فإنك عدل في كل مكان ما صنعت بنا
فصل من أعمال الرسل القديسين الأطهار

في تلك الأيام ارتأى بولس أن يتجاوز أفسس في البحر لئلاّ يعرض له أن يُبطئ في آسيا. لأنه كان يعجل حتى يكون في أورشليم يوم العنصرة إن أمكنه. فمن ميليتس بعث إلى أفسس فاستدعى كهنةَ الكنيسة. فلما وصلوا إليه قال لهم. احذروا لأنفسكم لجميع الرعية التي أقامهم الروح القدس عليها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه. فإني أعلم هذا أنه سيدخل بينكم بعد ذهابي ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية. ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يتكلمون بأمور مُلتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم. لذلك اسهروا متذكرين أني لمدة ثلاث سنين لم أكفف ليلاً ونهاراً أن أنصح كل واحد بدموع، والآن استودعكم يا إخوتي الله وكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتمنحكم ميراثاً مع جميع القديسين. إني لم أشته فضّةَ أو ذهبَ أو لباسَ أحدٍ. وأنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان. في كل شيء بينت لكم أنه هكذا ينبغي أن نتعب لنساعد الضعفاء وأن نتذكر كلام الرب يسوع. فإنه قال إن العطاء هو مقبوطٌ أكثر من الأخذ، ولما قال هذا جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلّى


إنجيل الأحد السادس المعروف بأحد الآباء
فصل شريف من بشارة القديس يوحنا البشير

في ذلك الزمان رفع يسوع عينيه إلى السماءِ وقال يا أبت قد أتت الساعة. مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، كما أعطيته سلطاناً على كل بشر ليعطي كل مَن أعطيته له حياة أبدية، وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي و الذي أرسلته يسوع المسيح. أنا قد مجَّدْتُك على الأرض. قد أتممت العمل الذي أعطيتني لأعمله. والآن مجدني أنت يا أبت عند بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم، قد أعلنت اسمك للناس، الذين أعطيتهم لي من العالم. هم كانوا لك وأنت أعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك، والآن علموا أن كل ما أعطيته لي هو منك. لأن الكلام الذي أعطيته لي أعطيته لهم. وهم قبلوا وعلموا حقاً أني منك خرجت. وآمنوا أنك أرسلتني، أنا من أجلهم أسأل. لا أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتهم لي، لأنهم لك. كل شيء لي هو لك وكل شيء لك هو لي. وأنا مُّجِدْتُ فيهم، ولست أنا بعد في العالم. وهؤلاءِ هم في العالم. وأنا آتي إليك. أيها الأب القدوس احفظهم باسمك. الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن، حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم باسمك. إن الذين أعطيتهم لي قد حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب، أما الآن فإني آتي إليك. وأنا أتكلم بهذا في العالم ليكون فرحي كاملاً فيهم


تفسير الانجيل

بعد هذا العرض المفرح والمعزي لحديث السيد المسيح الوداعي المسهب مع التلاميذ الذي شغل قرابة أربع أصحاحات (١٣-١٦) يقدم لنا الإنجيلي يوحنا الصلاة الوداعية العلنية أمامهم. وهي حديث فريد مقدم من الابن في اللحظات الأخيرة قبل تسليمه للصلب. تختلف عن الصلاة الربانية التي علمنا إياها السيد المسيح نفسه، لأن الأخيرة تركز على طلب غفران الخطايا، أما هذه الصلاة فتكشف عما في قلب السيد المسيح من اشتياقات نحو الكنيسة يحققها خلال الصليب. لم يكن محتاجًا إلى الصلاة لمغفرة الخطايا لأنه بلا خطية، بل هل نفسه غافر الخطايا. تعتبر أطول صلاة للسيد المسيح سجلها لنا الإنجيليون، لكننا لا نستطيع القول بأنها أطول حديث بين السيد المسيح والآب، فقد قضى الليل كله مصليُا قبل اختياره الاثنى عشر تلميذًا (لو6:12). كما وُجدت مناسبات أخرى قضى فيها فترات طويلة للصلاة. لهذه الصلاة قدسية خاصة في نظر المؤمنين حيث جاءت في ظل الصليب. إنها تناسب ذاك الشفيع الكفاري الفريد حيث يحمل كنيسته فيه كأعضاء جسده المقدس ليقدمها لأبيه القدوس. هي طلب بنوي من أجل الخلاص (24)، يمزق الحجاب الذي فصل البشرية عن الآب.

تٌعتبر صلاة عائلية قدمها رب العائلة: يسوع المسيح عن عائلته، التلاميذ أو الكنيسة ككل. أو صلاة وداعية، قدمها على مسمع من تلاميذه، بعد حديثه الوداعي معهم عن سرّ علاقته مع الآب، الآن يتحدث مع الآب علانية من أجلهم، ليكشف لهم عن دوره لدى الآب من جهتهم. هي صلاة كهنوتية، وكما يقول القديس اكليمنضس الإسكندري أن يسوع في هذه الصلاة هو رئيس الكهنة الذي يعمل لحساب شعبه، وأن هذه الصلاة تدعى صلاة كهنوتية عليا، أو صلاة رئيس الكهنة. يقدمها كإعداد للبشرية لقبول ثمار ذبيحته الفريدة. وهي تشكل ذروة إعلان سرّ الوحدة بين الآب والابن. إنها ليست عملاً مجردًا، بل هي حضوره في الآب، حيث يحملنا إلى حضنه. قدمها كصلاة سرائرية بعد تقديم سرّ الفصح المسيحي، أي بعد أن قدم لهم جسده ودمه المبذولين لغفران خطاياهم وحياة أبدية لهم، وقد جاءت الصلاة من أجل حفظهم في النعمة التي تسلموها. وكأن السيد المسيح يؤكد لنا حاجتنا إلى الصلاة المستمرة حتى نحفظ النعم الإلهية، أو حتى يحفظنا الله في غنى نعم أسراره الإلهية. هي صلاة ربانية يقدمها رب المجد لكي يعلمنا كيف نصلي. هي صلاة في مواجهة الموت، وقد امتلأت صلاته بالعذوبة، لأنه يواجه الموت من أجل تقديس أحبائه.

بارك يعقوب الاثني عشرة بطريركًا (أبًا) قبل موته، وبارك موسى الأسباط الاثني عشر أيضًا قبل موته، والآن يبارك السيد المسيح الكنيسة في العالم كله قبل تقديم حياته ذبيحة حب من أجلهم. الخط الواضح في هذه الصلاة هو تأكيد عملي لما قاله لتلاميذه: "افرحوا، أنا قد غلبت العالم" (16: 33). الآن وقد اقتربت جدًا لحظات صلبه، يتطلع إلي موته، لا ككارثة تحل به، بل كنصرة يحققها لحساب البشرية. لقد كرر مرارًا وتكرارًا لتلاميذه هذه الحقيقة، لكنهم لم يكونوا بعد قادرين علي إدراكها، لهذا طلب من الآب مساندتهم في وسط أحداث القيامة حتى يدركوها سريعًا ويتمتعوا بفاعليتها. الآن يسلم تلاميذه في يدي الآب أثناء عبوره طريق الصليب، فإنه ليس من قوى أخرى يمكن أن تسندهم سوى العمل الإلهي. "تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء". (1) إذ صار كلمة الله إنسانًا حقيقيًا كاملاً مارس العبادة لتأكيد خضوعه حتى للناموس ولنظام العبادة، وصلى أيضًا ليكشف عن علاقته بالآب، إذ أُتهم بأنه بعلزبول رئيس الشياطين، وأنه ليس من عند الله.

لم يكن السيد المسيح في حاجة إلى الصلاة، لأنه هو واحد مع أبيه في الجوهر. لكنه كممثلٍ لنا يقدم الصلاة عن نفسه: "مجد ابنك" (1) لكي لا نكف عن الطلبة من أجل مجدنا فيه.

المسيح بكونه الله نصلي إليه، وإذ صار إنسانًا صار يصلي حتى يكمل فيه كل برّ. لقد قيل له كما قيل لنا: "اسألني فأعطيك" (مز ٢: ٨). وها هو يسأل الآب، معطيًا كرامة خاصة للصلاة، لكي نجد فيها شبعنا. ويقول الرسول بولس: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ وطلباتٍ وتضرعاتٍ للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنًا تعلم الطـاعة مما تألم به" (عب ٥: ٧-٨). لقد اشترى البشرية بدمه، فقدم الدم ليسأل الآب أن يهبه البشرية تسكن فيه فتتبرر. أما نحن فبدونه لا نقدر أن نسأل من الله كأبٍ لنا، ولا نقدر أن ننال. بصلاته قدس صلواتنا، وفتح لنا طريق الالتقاء مع الآب خلال المسرة الإلهية. صلى باسمنا، إذ يعرف أعماق قلوبنا (خر ٢٣: ٩) ويدرك تمامًا احتياجنا، وهو الطريق الذي وحده يصعد إلى السماء، إلى حضن أبيه، لذا فهو وحده القادر أن يقدس صلواتنا.

رفع السيد المسيح عينيه إلى السماء كما فعل ذلك من قبل (يو ١١: ٤١)، لماذا؟ إنه ساكن السماء بلاهوته ولا يحتاج إلى رفع عينيه إلى السماء كمن يتوسل أمرًا ما من الآب. لكنه إذ صار ابن البشر قدَّس السيد المسيح حتى حركات الجسد، حتى نرفع أعيننا نحن أيضًا مع عينيه، فيرفع قلوبنا إلى السماء أثناء الصلاة (مز ٢٥: ١). كان اليهود في ذلك الوقت يرفعون رؤوسهم إلى فوق، ويفتحون أعينهم نحو السماء أثناء الصلاة، وقد استخدم السيد المسيح ذات الوضع الذي كان سائدًا في أيامه، لكي نلتزم نحن بالعبادة بروح جماعية في تدبير كنسي منظم بلا تشويش. هذا لا يعني أنه لا تقدم الصلاة إلا بهذا الوضع، فقد امتدح السيد المسيح العشار الذي لم يجسر أن يرفع عينيه، هكذا وقد قرع صدره في ندامة (لو 18: 23). والسيد المسيح نفسه انحنى أثناء حديثه مع الآب في البستان (مت 26: 39).

يدعو السيد المسيح الآب أباه، وهو الأب بالطبيعة، لكي إذ نرفع نحن أعيننا معه، نتطلع إلى الله كأبٍ لنا، وذلك بالتبني الذي نلناه بروحه القدوس. إنه يوجهنا إلى أبيه بروح التشجيع والرجاء في نوال العطايا من يديه الإلهيتين. "قد أتت الساعة" (١)، كثيرًا ما كان يكرر بأن ساعته لم تأت بعد. الآن إذ بدأ طريق الصليب يقول: "قد أتت الساعة"، وهو يعرفها. لا يعرف الإنسان ساعته (جا ٩: ١٢) أما ابن الإنسان فقد عرفها. دعاها "هذه الساعة" (يو ١٢: ٢٧) و"الساعة" (يو ١٧: ١). فإنه لا توجد ساعة في كل التاريخ البشري، بل منذ بدء الزمن حتى نهايته كساعة الصليب التي فتحت أبواب السماء، وصالحت البشرية مع الآب، وأعطتهم حق الميراث الأبدي والمجد السماوي. ساعة آلام المسيح هي في خطة الله؛ ذروة هدف السيد المسيح منذ البداية، بل وقبل تجسده من أجل هذه الساعة.

لقد جاءت الساعة الحاسمة حيث المعركة بين السماء والجحيم من أجل مجد الله وسعادة الإنسان على مستوى أبدي. وكأنه يقول: "لقد جاءت الساعة التي فيها اتحدت قوات الظلمة لكي تسيء إلى ابنك، الآن أيها الآب مجد ابنك!" إنها ساعة فريدة، ساعة المعركة بين النور وسلطان الظلمة؛ بين السماء وجهنم. رآها يوحنا الحبيب فقال: "خرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤ ٦: ٢)، خرج ممتطيًا مركبة الصليب التي تحطم كل قوات الظلمة. في وسط الآلام التي قبلها الابن بمسرة مجد الآب ابنه أثناء آلامه، عندما حاولت الجموع القبض عليه فسقطوا على الأرض، وبعد أن سلمه يهوذا اعترف بجريمته وختمها بانتحاره، وأرسلت امرأة بيلاطس إلى زوجها تحذره من أن يصنع به شرًا. مجدته الطبيعة إذ انكسفت الشمس وانخسف القمر، والصخور تشققت، والقبور تفتحت. أيضًا شهد له الهيكل إذ انشق حجابه.

هذا ما شاهدته البشرية أثناء محاكمة السيد وآلامه وموته. هذه كلها أمجاد لكنها لا تشغل ذهن السيد المسيح، وهو يقول: "مجد ابنك"، إنما ما يشغله هو المجد الذي لا تنظره العيون الجسدية، هو الغلبة على إبليس والتشهير بقوات الظلمة، وإطلاق الأسرى من الجحيم، ودخول اللص اليمين إلى الفردوس. مجَّده الآب أيضًا إذ أقامه من الأموات، وأرسل الروح القدس على تلاميذه وأسس مملكته في قلوب البشرية. هذا ما كان يشغله ويصلي لأجله. أراد الشيطان أن يقدم له ممالك العالم أثناء تجربته بشرط أن يجحد بنوته لله ويرفض المجد الذي يقدمه الآب، لكن السيد المسيح كممثلٍ لنا لن يقبل المجد إلا من يدي أبيه، ففيه نرث المجد، إن تقدسنا كأبناء الله. قدم السيد هذه الصلاة قبل تسليم نفسه للموت ذبيحة عن خطايانا، لكي نقدم صلاة مماثلة في لحظات عبورنا من العالم. عندما نشعر أن ساعة انتقالنا من العالم قد جاءت نصرخ إلى الله: "قد أتت الساعة". لتقف بجانبي، ولتعلن عن ذاتك لي. هوذا خيمتي الأرضية تنحل، فألبس البناء المصنوع بغير يدٍ بشرية. كما مجدت نفسي بنعمتك، مجِّد جسدي في يوم لقائي معك على السحاب".

"ليمجدك ابنك أيضًا"، فإنني أسلمك إرادتي، وأكرس كل طاقاتي ومواهبي لحساب ملكوتك. نصرتي وخلاصي ومجدي شهادة حية لمجدك الفائق ونعمتك الغنية.

كتب الإنجيلي يوحنا هذا السفر لكي تختبر كل نفس عربون المجد الأبدي في أعماقها، حتى يمكن للإنسان بكليته نفسُا وجسدًا أن ينعم بشركة المجد. لهذا نجد الاسم "مجد" قد تكرر في هذا السفر 18 مرة أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد باستثناء الرسالة الثانية إلي أهل كورنثوس، حيث يحدثنا الرسول عن الخادم في آلامه وأتعابه كخادمٍ ممجدٍ بالرب. أما الفعل "يمجد" فقد تكرر هنا 23 مرة بينما لم يتكرر في أي سفر آخر في العهد الجديد أكثر من 9 مرات. وكأن الإنجيلي يوحنا يود أن ننطلق بالروح القدوس لننعم بالأمجاد التي يعدها لنا السيد المسيح. إنه سفر المجد الحقيقي الذي فيه أخلى الكلمة نفسه حتى نلتقي به ونتعرف عليه وعلى حبه ونتحد به فنتمجد معه! هذا هو مجد الابن أن نتمتع بصليبه فنشاركه أمجاده. وهذا هو مجد الآب أيضًا، إذ احب العالم وبذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16) أي ينعم بالمجد الأبدي. هكذا مجد الابن واحد مع مجد أبيه، وهو مجد يقوم لا عن احتياج أو زيادة في مجدهما، وإنما في حبهما لنا ننعم بشركة المجد خلال العمل الإلهي للخلاص.

 "تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء"، عندما قال السيد المسيح لتلاميذه: "في العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16: 32)، فلكي لا يزعزع نفوسهم أنهضهم بالصلاة أيضًا، لأنهم كانوا ينظرون إليه في صورة إنسان، ولأجل أولئك صلى عند إقامته لعازر، وذكر العلة "أي بسبب الجمع الحاضر". قال: "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني" (يو 11: 41-42).

ولعلك تقول: نعم كان يجب حدوث هذه الأمور في حضرة اليهود، أما كونها حدثت في حضرة تلاميذه، فلماذا؟ فأجيبك: كان يجب حدوثها أمام تلاميذه، لأن الذين قالوا: "الآن نعلم أنك عالم بكل شيء، ولست تحتاج أن يسألك أحد" (يو 16: 30) احتاجوا أن يحقق لهم ذلك أكثر من كل الناس. ولسبب آخر وهو أن البشير لم يدعو فعل السيد المسيح صلاة، لكنه قال: "ورفع يسوع عينيه إلى فوق" (يو 11: 41) وخاطب أباه بقولٍ أكثر اختصاصًا. وقول السيد المسيح للآب: "قد أتت الساعة، مجد ابنك، ليمجدك ابنك" أرانا أيضًا أنه جاء إلى صليبه ليس كرهًا، لأنه كيف يكون كرهًا وهو يبتهل أن يتحقق ذلك، ويسمي ذلك شرفًا ومجدًا ليس للمصلوب وحده، بل ولأبيه معه، لأنه بالصليب لم يتمجد الابن وحده، بل به تمجد معه أبوه أيضًا. فإنه قبل الصلب لم يعرف حتى اليهود (الآب)، فقد قيل: "إسرائيل لا يعرفني" (إش1: 3)، أما بعد الصلب فقد ركض العالم كله نحوه.



 لو أن الابن قد مات (بالجسد) ولم يقم، فإنه بلا شك لا يكون قد تمجَّد بواسطة الآب، ولا هو مجَّد الآب. الآن إذ يتمجد بقيامته بواسطة الآب، يمجد الآب بالكرازة بقيامته. انكشف هذا الأمر بترتيب الكلمات عينه: "مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا". بمعنى: أقمني حتى بي يعرفك العالم كله.

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن الكلمة اليونانية للمجد (دكصا) تفسر في اللاتينية clarifica أو يجعل الأمر ساطعًا. فعندما يكشف الابن عن الآب ويظهر حقيقته، تتعرف الخليقة على حقيقة بهائه فتسبحه. [من هنا قيل في الكتاب المقدس: طوبى للذين يسكنون في ديارك، يسبحونك إلى أبد الأبد" (مز ٨٤: ٤). يستمر التسبيح لله بلا نهاية، حيث توجد معرفة الله الكاملة. وبسبب كمال المعرفة يوجد البهاء والمجد.]

إذ هو الابن الوحيد الجنس ينسب سلطانه للآب، بكونه المولود منه، وهو في هذا لا يحمل سلطانًا من مصدر خارجي، لأنه واحد معه في الطبيعة الإلهية والجوهر الإلهي. وبكونه قبل في طاعة أن يتمم خلاصنا ومصالحتنا مع الآب حسب أنه نال منه السلطان. هذا السلطان يختلف عن سلطان ملوك العالم ورؤسائه. سلطانه أن يصالح البشرية مع الآب، ويهبهم البنوة بروحه القدوس، فيصيروا كمن في قرابة، بهذا سلطانه يهب الحياة الأبدية. وهو الحياة الأبدية ذاتها كابن الإنسان تقبل الحياة الأبدية نيابة عن البشرية لكي بحبه يسكبها في كل بشر. "أعطيته": قيل عن القديس يوحنا أنه مُغرم بالفعل "يعطي"، فقد تكررت في هذا السفر 76 مرة، وجاءت في هذه الصلاة 17 مرة، منها 13 مرة عن عطاء الآب للابن، وأربع مرات عطاء الابن لتلاميذه.

تكرار هذا الفعل يحمل معانٍ كثيرةٍ في ذهن الإنجيلي. فإنه إذ يتحدث عن الكلمة الإلهي بكونه ابن الله الوحيد الجنس يرى الآب يلد الابن أزليًا فيعطيه كل ما له، لأنه يحمل ذات الجوهر، فهو يعطي ليس بالمنحة أو الهبة أو النعمة المقدمة كما من الخارج، لكنه عطاء الآب للابن وهما أقنومان متمايزان لكنهما جوهر واحد. إنه عطاء لا يمكن إدراكه ولا التعبير عنه، لا يخضع للزمن، ولا للتغيير بالنقص أو الزيادة. كل ما للآب فهو للابن، وما للابن فهو للآب من حيث السمات الإلهية.

خلال هذا السرّ الإلهي الفائق يرى الإنجيلي أن الابن وقد تجسد يفيض بالعطاء خلال النعمة الإلهية كهبة لمؤمنيه. هذا العطاء مجاني، مقدم من الآب والابن والروح القدس. كل عطية إلهية تقدم لنا من الآب بالابن في الروح القدس كما يكرر القديس كيرلس الكبير. إن كان يحلو للكنيسة في أغلب ليتورجياتها أن تردد لقب "محب البشر" إنما لتؤكد أن مسرة الثالوث القدوس هي في العطاء المستمر للبشر دون توقف، حتى يحملوا أيقونة المسيح، ويتمتعوا بالعرس السماوي معه أبديًا. كلمة "جسد" هنا يعني بها "الإنسان" ككل (تك ٦: ٣)، فهو صاحب سلطان على البشرية، على الأجساد كما الأرواح. فإذ يقدم نفسه ذبيحة مرة واحدة يصالح الكل مع الله، إذ ذاق الموت بنعمته عن كل أحدٍ (عب ٢: ٩).

بكونه المسيا مخلص العالم الذي صار إنسانًا لتحقيق الخلاص نال من الآب سلطانًا عامًا على كل جسد، أي على كل الجنس البشري، حتى بتقديس ذاته لهذا العمل يصالح الكل مع الآب. بنعمته ذاق الموت من أجل كل أحدٍ (عب ٢: ٩). بهذا تحقق الوعد بأن ينال المسيا ميراثًا جامعًا (مز ٢: ٨) يضم الأمم مع اليهود (٢ كو ٥: ١٤-١٥؛ رو ٥: ٢١؛ ١ تي ٢: ٤-٦). سلطان السيد المسيح على كل البشر، أما الحياة الأبدية فيهبها للمؤمنين الذين يعطيهم الآب لابنه ميراثًا أبديًا.

إنه صاحب سلطان على بني البشر ليهب حياة لأبناء الله، ويجعل كل شيء هو لهم (٢ كو ٤: ١٥)، كل الوعود الإلهية هي من أجلهم. في صلواته من أجل نفسه لكي يمجده الآب حمل حبًا للآب كما لنا، لأن مجده هو مجد لأبيه، وفيه نتمتع بشركة أمجاده، ونختبر قوة قيامته، وتصعد قلوبنا معه لتحمل بهاء مجده! لم يقل "سيعطي" بل قال: "يعطي"، فعطاء الابن لنا؛ أو تقديم ذاته هبة لنا هي عطية حاضرة الآن؛ نقبلها ونعيشها ونتمتع بها وننمو فيها، حتى ننعم بها بصورة أعظم وأبهى يوم لقائنا معه وجهًا لوجه.

 إن قلت: وما هو معني قول السيد المسيح: "إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد"؟ أجبتك: قد أظهر مقدمًا أن الكرازة به ليست مقصورة على اليهود وحدهم، ولكنها تمتد إلى العالم كله. هنا يعلن مقدمًا الدعوة الأولي للأمم (بعد رفض اليهود له). فقد سبق فقال: "في طريق الأمم لا تمضوا" (مت 5:5)، لكن اقترب الوقت الذي يقول فيه: "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم" (مت 28: 19). لقد أظهر أن الآب يريد ذلك.

هذا الأمر كان يعارض اليهود تمامًا، ويعارض التلاميذ أيضًا. فإنه حتى بعد هذا لم يكن سهلاً أن يقبلوا إعلان الدعوة للأمم إلى أن نالوا تعليم الروح، لأن ذلك فيه عثرة ليست بقليلة لليهود.

ماذا يعنى "كل جسد"؟ بالتأكيد لم يؤمن الكل، لكن من جانبه هو قدم لكي يؤمن الكل، فإن لم يبالِ الناس بكلماته، فالخطأ ليس من جانب المعلم، بل من جانب الذين لم يقبلوا كلماته. "الحياة الأبدية": إذ يقدم المسيح نفسه ذبيحة يبطل مفعول الخطية وهو الموت، ويثبت في المؤمنين وهم فيه، فيتمتعوا به بكونه الحياة التي لا تُقاوم. به يعبر المؤمن فوق حدود الزمن، فتتمتع النفس بالخلود في السماء، ويتمجد الجسد حاملاً طبيعة جديدة لائقة بالأبدية. دُعي الخلاص المقدم من السيد المسيح حياة أبدية للأسباب الآتية:

أولاً: صار للمؤمن حق الوقوف أمام العدالة الإلهية متحصنًا بذبيحة المسيح التي تحميه من الموت الأبدي.

ثانيًا: صار للحياة حتى في العالم الحاضر طعمها الخاص ورسالتها، حيث يبث
       المؤمن في الآخرين روح السعادة والفرح والسلام الداخلي خلال عمل السيد  
       المسيح الخلاصي.

ثالثًا: حياة أبدية، لأنها تتعدى حدود الزمن، وتتحدى الموت.

رابعًا: تكشف عن خلود المؤمن نفسًا وجسدًا.

"أن يعرفوك": المعرفة هي طريق الحياة الأبدية، معرفة الآب الإله الحقيقي وحده، والعبادة له، والطاعة، وقبول السيد المسيح المعلم والذبيحة والكاهن والمخلص، المسيح الحقيقي وحده. "الإله الحقيقي": الله ليس اسما مجردًا أو فكرة في الذهن، لكنه الإله الحقيقي الذي ينشغل بخليقته، ويهتم بخلاص بني البشر، العملي في حبه اللانهائي. هذا الذي في حبه الإلهي أرسل ابنه الوحيد خلاصًا للبشر. إنها ليست معرفة عقلانية مجردة، لكنها معرفة اختبار وتذوق لخطة الله الخلاصية. إنها تجاوب مع هذه الخطة، فيقبل المؤمن يسوع المسيح ربًا وفاديًا ومعلمًا ومشبعًا لكل احتياجاته. قبول عملي لإرسالية السيد المسيح الإلهية.

فيتمتع المؤمن بتجديد حياته المستمر خلال عمل روح الله القدوس. بهذا فإن المعرفة هي حياة وشركة مع من نتعرف عليه. ما قيل عن الله الحقيقي وحده لا يحمل هنا تعارضًا مع يسوع المسيح، إنما مع العبادة الوثنية وتعدد الآلهة. يترجم البعض هذا النص: "لكي يعرفوك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، الإله الحقيقي وحده". يرى القديس أمبروسيوس أن المؤمن أشبه بتاجرٍ ناصحٍ يتقدم إلى مائدة الصيارفة الروحية ليقدم الوزنات والتمسك بالوعود الإلهية مقابل تمتعه بالحياة الأبدية المجانية، فينعم بالمعرفة الإلهية الحقيقية.

هذه هي كلمة الرب، هذه هي الوزنة الثمينة التي بها تخلصون. هذا المال يلزم أن يُرى على مائدة النفوس حتى بالتجارة الدائمة الصادقة للعملات الصالحة يمكن التنقل في كل مكان بشراء الحياة الأبدية. "هذه هي الحياة الأبدية" التي تهبها لنا أيها الآب القدير مجانًا، لكي نعرف أنك "أنت هو الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (3).

بهذا يضع النهاية لأتباع سابيليوس (الذين يدعون أن الأقانيم الثلاثة مجرد ثلاثة أسماء أو أشكال لأقنومٍ واحدٍ) ولليهود، هؤلاء الذين سمعوه يتكلم. فالأولون يلزمهم ألا يقولوا أن الآب هو ذاته الابن، إذ كان يمكنهم هذا لو لم يُضف "المسيح" إلى العبارة، والآخرون يلزمهم ألا يفصلوا الابن عن الآب.

تقول الكتب المقدسة أن الحياة الأبدية تستند على معرفة الإلهيات وعلى ثمر الأعمال الصالحة.

القديس أمبروسيوس

"الإله الحقيقي وحدك"، يقول ذلك بطريقة ما لتمييزه عن الذين ليسوا بآلهة، إذ كان على وشك أن يرسلهم إلى الأمم... أما إذا لم يقبل (الهراطقة) هذا، بل بسبب كلمة "وحده" يرفضون أن يكون الابن هو الله الحقيقي، فهم بهذا يرفضون كونه الله نهائيًا... لكن إن كان الابن هو الله، وهو ابن الله الذي يدعى "الإله وحده"، فمن الواضح أنه هو أيضًا الإله الحقيقي وأن "وحده" توضع للتمييز عن الآخرين. لو أن الابن ليس هو الإله الحقيقي فكيف يكون هو "الحق"؟ ،لأن الحق يفوق بمراحل "الحقيقي".

القديس يوحنا الذهبي الفم

أولاً: لا توجد حياة أبدية في الاعتراف بالله الآب بدون يسوع المسيح.

ثانيًا: يتمجد المسيح في الآب. فالحياة الأبدية بكل دقة هي أن نعرف الإله الحقيقي وحده ونعرف ذاك الذي أرسله، يسوع المسيح.

إذن يتمجد الآب بالابن الذي عرفناه به.

المجد هو هذا أن الابن، إذ صار جسدًا، قبل منه سلطانًا على كل جسد، مع القيام بإعادتنا للحياة الأبدية... ولكن ماذا تحتوى أبدية الحياة؟ تخبرنا كلماته: الحياة هي "أن يعرفوك" الإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسلته. هل يوجد أي شك أو أية صعوبة هنا أو أي تضارب؟ الحياة هي أن تعرف الإله الحقيقي وحده. يعلن السيد المسيح أنه قد جاء لا لكي يستريح بل ليعمل طول نهاره حتى يكمل عمل الخلاص. وإذ يحملنا فيه لا نعرف الراحة إلا في العمل المستمر، حتى نتمم خلاصنا بخوفٍ ورعدة ٍ(في 2: 12). لن نسلك بأنصاف الحلول، بل كل الوقت لحساب خلاصنا. "أنا مجدتك": لقد حسب ربنا يسوع أن عمله الخلاصي قد تم فعلاً، إذ أحنى رأسه لقبول الكأس بالحب ليحمل خطايانا في جسده ويقدم نفسه ذبيحة عنا، وكأنه قد تمم رسالته. يتحدث مع الآب أنه أكمل العمل الذي تسلمه من يديه، متطلعًا إلى انتشار الإنجيل في العالم، وتعرف المؤمنين على محبة الله الآب الحقيقي، والتمتع بالاتحاد معه، وتعبد المؤمنين له. لقد مجَّد الآب لأنه سرَّه وتمم عمله الكامل، وفي هذا سرور أيضًا للابن ومجد له.

لم نرَ السيد المسيح يشكو من حياته التي رافقها الصليب منذ الحبل به؛ ولا مما عاناه كابن البشر من إهانات واتهامات وآلام وتجارب، لأنه جاء إلى العمل ليمجد الآب بإعلان الحب الإلهي العملي لكل بشر. وهو في طريق الجلجثة لا يشغله إلا تحقيق إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. ونحن إذ نتحد به نعبر فوق كل الأحداث وكل الآلام لنهتم بمجد الله فينا وفي اخوتنا ونكمل رسالتنا لحساب ملكوت الله.

لم يأتِ السيد المسيح إلى العالم ليعبر طريقًا مفروشًا بالورود، وإنما ليجد مسرته في تحقيق كل برّ، كما يجد الآب مسرته فيه، لأنه يخبر عنه عمليًا، ويحقق خطته من نحو الإنسان. لقد تمم السيد المسيح عمل الآب وإرادته لنتمتع بالخلاص، والآن لا يزال يتممه فينا لكي يتجلى في داخلنا فنشاركه أمجاده. بذات الروح يليق بالخدام، وهم يتمتعون بإمكانية الله لتحقيق خطته الإلهية للخلاص، أن يتطلعوا إلى البشرية بمنظار الرجاء في خلاص الكثيرين. يليق بنا نحن كأعضاء في جسد المسيح أن نمجد الآب بأن نتمم إرادته وعمله قدر استطاعتنا. نمجده على الأرض التي أعطاها لبني البشر كإعدادٍ للعبور إلى الأبدية. يليق بنا أن نثابر حتى النفس الأخير لنتمم العمل الإلهي.

قال السيد المسيح للآب: "أنا مجدتك على الأرض"، لأنه قد تمجد في السماء، إذ له المجد في طبيعته، وملائكته ساجدون له، فهو لم يتحدث عن ذلك المجد الذي للآب في جوهره... إنما يذكر المجد القائم من عبادة الناس له... قال: "العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته". فإن قلت: إن كان عمل السيد المسيح لم يكن قد أكمل، فكيف يقول: "قد أكملته"؟ أجيبك: إما يعني أنه عمل ما يخصه كله من جانبه، وإما يتحدث عما سيكون كأنه قد حدث. وإما فوق هذا كله أن الكل قد أُنجز، لأن جذر البركات قد أعد، وأن الثمار حتمًا تتبعه بالضرورة، وذلك بحضوره ومساندته في هذه الأمور التي تتحقق فيما بعد. لهذا يقول مرة أخري في تنازل: "العمل الذي أعطيتني".

القديس يوحنا الذهبي الفم

أي شيء لم تتقبله الطبيعة البشرية في الابن الوحيد؟ ألم تتقبل هذا، أنها لن تصنع شرًا بل كل خير، باتحادها بشخص الكلمة الذي به كان كل شيء؟ لكن كيف أكمل العمل المعهود إليه بينما كان قد بقي بعد دخوله في الآلام الذي به يسند الشهداء، مقدمًا نفسه مثالاً يقتدون به؟ لهذا يقول بطرس الرسول: "فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته" (١ بط ٢: ٢١).

وإنما يقول أنه أكمل ما قد عرف بتأكيد تام أنه يتممه. وذلك كما استخدم سابقًا في النبوة صيغة الماضي عن أمور تحدث بعد سنوات طويلة. إذ يقول: "ثقبوا يدي رجلي، وأحصوا عظامي" (مز ٢٢: ١٦، ١٧). لم يقل: "سيثقبوا وسيحصوا"... هكذا يقول هنا كما لو أنه هو أولاً مجد الآب، ويطلب أن يتمجد. لذلك يلزمنا أن ندرك أنه استخدم كل الكلمات السابقة الخاصة بالمستقبل... وصاغها في الماضي. لأجلنا أخلى ذاته عن مجده، ولأجلنا تمجّد، نال من الآب الكرامة والمجد (1 بط 17:1)، المجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم (يو 5:17).
يضع ربنا يسوع، ملك الملوك، التيجان الملوكية على رؤوس مؤمنيه الأتقياء بيده. ما من درجة من الكرامة مهما علت لا يمكن للَّه أن يرفعنا إليها إن أراد ذلك؛ فهو يرفع المسكين من المزبلة، ويقيمه وسط الأشراف "الملوك الروحيين" (مز 7:113-8). فقد أخذ الرب داود من بين أغنامه، وأقامه ملكًا متوجًا على أعظم عرش في المسكونة كلها في ذلك الحين. في استحقاقات الدم الثمين وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس، الذي يشكل إنساننا الداخلي لنحمل شركة المجد والبهاء بصورة فائقة. يحمل مجد الابن كرامات وسلطانًا وأفراح من أجل تحقيق إرادة الآب وإتمام العمل. هذا المجد الذي يسأله هو مجده من قبل تأسيس العالم:

أولاً: مجد أزلي، شريك مع الآب في المجد، فهو بهاء مجده (عب ١: ٣)؛ لا ينفصل عنه. ورد تعبير "قبل تأسيس العالم" وأمثاله في الكتاب المقدس ليعني الأزلية (يو ١٧: ٢٤؛ مز ٩٠: ٢؛ أف ١: ٤؛ يو ١: ١).

ثانيا: بتأنسه أخلى الكلمة الإلهي ذاته عن مجده، كمن يضع حجابًا يغطي به بهاءه، لكن الحجاب لم يغير من طبعه، ولم ينزع عنه حقيقة مجده الأزلي. إن كان الآب قد تمجد بالابن بتجسد الابن وتنازله حتى الصليب لتحقيق الخلاص، فإن تنازل الابن لن يفقده مجده.

ثالثًا: عاد فارتدى مجده والتحف به، ليفتح لنا طريق المجد السماوي. فباتحادنا بالسيد المسيح الممجد للآب ننعم بشركة المجد في الدهر الآتي.

يطلب الابن أن يلتحف بالمجد الذي له منذ الأزل قبل خلقة العالم، فيتمتع الناسوت الذي التحف به ببهاء القيامة من الأموات والصعود إلى السماء، إذ له سلطان أن يضع حياته بالموت ويأخذها بالقيامة، لأنه هو القيامة. يعلن الآب مجد الابن في قيامته وصعوده وجلوسه عن يمينه في الأعالي، فوق كل خليقة (في ٢: ٦-٩).

هذا ما أعلنه إشعياء النبي بكل وضوح: "أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن؛ إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح... لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه، فأُحصي مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين" (إش ٥٣: ١٠-١٢). هكذا يُسر الآب بالصليب لأنه به تصير البشرية المؤمنة غنائم يحملها المصلوب إلى العرش الإلهي مبررة وممجدة فيه. إنه مجد الآب، وهو مجد الابن واهب البرّ، ومجد البشرية التي تشاركه مجده السماوي! لكنه إذ يحقق مشيئة الآب يقبل الألم كإرادة أبيه، ويقبل القيامة حسب مسرة أبيه.

هذا هو مجد الابن المتجسد، إنه لا ينال مجدًا من الخارج، لكن من الذي له أزليًا ينعكس على ناسوته. إنه لم يطلب أن يتمجد مع رؤساء هذا العالم وسلاطينه. فقد قدم له إبليس في التجربة ممالك العالم فرفض، حتى نستخف بالأمجاد الزمنية ونطلب ما هو سماوي. كأنه يقول: "لتعطي أمجاد العالم لمن يشتهيها، أما أنا فنصيبي في المجد هو معك في السماء على مستوى أزلي. لست أطلب أن أتمجد مع الناس بل معك!" نصرخ مع مسيحنا لنطلب مجدنا لا على الأرض بل الذي "عند الآب"، أي في الأحضان الإلهية، فيتحقق فينا الوعد الإلهي: "من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا، وجلست مع أبي في عرشه" (رؤ ٣: ٢٠).

تأمل كيف لم يطلب السيد المسيح من الآب أن يمجده بالمجد الذي له على الأرض، لكنه طلب منه أن يمجده بالمجد الذي كان له عنده.

أين هو ذاك المجد؟ إذ سمح ألا يكرم من البشر بسبب الغطاء الذي وضعه حول نفسه، فكيف يطلب أن يمجده الآب؛ ماذا يقول هنا؟ ما يقوله خاص بالتدبير، فإنه إذ لم تتمجد طبيعته الجسدية بعد، ولا نال بعد عدم الفساد، ولا شارك (جسده) العرش الملوكي. لهذا لا يقول: "على الأرض" بل "عندك".

القديس يوحنا الذهبي الفم

وهكذا يمكنني أن أذكركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أقدم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يدعى" أبًا البشر"في معنى غير مناسب" أي ليس بالطبيعة. هكذا خوطب الله في إشعياء: "فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا ابراهيم" (إش 16:63) و"سارة لم تتمخض بنا".

وإذ يقول المرتل: "ليضطربوا من هيئته، أب اليتامى وقاضي الأرامل"" (مز 5:68 LXX )، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدهم بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟ ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني. فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم".

القديس كيرلس الأورشليمي

نفهم أن المجد الذي لناسوته من أنه وهو قابل للموت يصير خالدًا مع الآب، هذا قد تحقق بالتدبير السابق المحتم قبل وجود العالم، وقد تحقق في الوقت المعين في العالم. طلبته الخاصة به قصيرة جدًا بالنسبة لصلاته من أجل الآخرين، لكنها تسبقها حتى ندرك حبنا لاخوتنا كما لأنفسنا. فإن كنا نطلب من أجل مجدنا الأبدي، ونعلن عن حبنا لخلاصنا، يلزمنا أن نطلب للآخرين كما لأنفسنا. احتلت الصلاة عن الآخرين مركزًا خاصًا، حتى لا تحتل صلواتنا من أجل الكنيسة وخلاص البشرية ركنًا صغيرًا في صلواتنا. لا نضَّيق قلبنا من جهة الغير، بل يتسع بالروح القدس، ليطلب بكل فيض من أجلهم.

بعد أن طلب من أجل نفسه ليس عن احتياج، إنما علامة الشركة بينه وبين الآب، والمجد المتبادل بل الواحد فيهما، الآن يطلب عن خاصته، وهم معروفون لديه بالاسم، من أجل كل الذين يؤمنون به ويقبلونه. أنه يعلمنا أننا في الصلاة نربط الحب الإلهي بالحب الأخوي. ففي طلبته عن نفسه كشف عن وحدته العجيبة مع الآب مع اتساع قلبه نحو البشرية. إنه يريد أن الكل يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون، لكن في هذه الصلاة الشفاعية يقدم الذين يقبلون أن يقدمهم للآب. إنه يود أن يحمل العالم كله إلى العرش، لكنه لا يحمل أحدًا قسرًا، ولا يطلب عمن لا يقبل عمله فيه. إنه يقدم من سُجلت أسماؤهم بدمه في سفر الحياة.

"أنا أظهرت اسمك للناس" (6). إن كانت الطبيعة تعلن عن الله في حدود معينة، والناموس الموسوي يعلن عنه بالأكثر، فإن تجسد الكلمة قدم إعلانًا كاملاً عن الله في محبته للبشر وسماته. إنه يصلي إلى الآب كمعلمٍ قدم لتلاميذه المعرفة الإلهية، ما تسلمه من الآب بكونه الابن العارف بأسرار أبيه قدمه لتلاميذه حتى يتعرفوا على اسمه أو شخصه. إنه يشرق عليهم بنور المعرفة، فيبدد ظلمة الجهل، فيحبوه ويعبدوه ويمجدوه. في تعليمه لم يطلب ما لنفسه مع أنه واحد مع أبيه، لكنه يطلب أن يتعرفوا على اسم الآب، فإنه لا يعرف الآب إلاَّ الابن ومن يعلن له (مت ١١: ٢٧). هو وحده القادر أن يكشف عن الحق ويدخل بتلاميذه إليه ويدخل بالحق إلى أعماقهم. "اسمك":

كان اليهود يتطلعون إلى اسم الله بوقارٍ شديدٍ، فكانوا لا يخاطرون بذكر اسمه "يهوه"، لئلا يخطئ الشخص في نطقه. وكان الكتبة عند نسخ الأسفار المقدسة يمارسون طقسًا خاصًا عند كتابة اسم الله مثل غسل القلم قبل كتابته مباشرة. كان النطق بالاسم يحمل معنى الحضور الإلهي ذاته. وقد حملت الكنيسة الأولى ذات الفكر الإنجيلي، فحسبت النطق باسم "يسوع" يحمل معنى حضرته.

وكان الآباء يمارسون "صلاة يسوع" حيث يرددون اسمه إعلانًا عن شعورهم بحضوره بينهم وفي داخلهم. فالاسم ليس مجرد تمييز بين شخص وآخر بلقبٍ معين، وإنما يحمل كيانه كله. فلا نعجب إن قام نبوخذنصر بتغيير اسم متَّنيا إلى صدقيا (2 مل 24: 17). بهذا يعني أن متًّنيا صار رجل نبوخذنصر، وكل من يستخدم اسمه الجديد إنما يدرك أن كيانه مرتبط بنبوخذنصر. وعندما ولدت راحيل ابنًا وكانت في طريقها للموت دعته "ابن أوني" أي "ابن حزني"، لكن أباه رفض أن ترتبط شخصية ابنه بحزن أمه، فأعطاه اسما يملأه رجاءً وقوةً، إذ دعاه "بنيامين" أي "ابن يميني" (تك 35: 18).

أيضًا كثيرًا ما يغير الله نفسه أسماء مؤمنيه، لكي يحملوا سمات جديدة لائقة بدعوة إلهية لعملٍ معينٍ. فدعا إبرام إبراهيم إذ جعله أبًا لأممٍ كثيرةٍ (تك 17: 5). وبنفس الطريقة دعا ساراي سارة لتدرك دورها كأميرة. وأيضًا دعا يعقوب إسرائيل، فعوض أن يحمل سمة التعقب لاخوته يتمتع بسرّ قوة الله كجندي أو مصارع من أجل الله (تك 32: 28).

وإذ أهان فشحور إرميا وضربه ووضعه في مقطرة غير الله اسمه إلي مجور مسابيب (إر 20: 3) إذ يحمل سمة الخوف من كل جانب، مشيرًا إلي ما سيناله من عقابٍ إلهيٍ بسبب عنفه. هكذا أيضًا أمرنا السيد المسيح أن نتمم العماد باسم الآب والابن والروح القدس (مت 28: 19؛ أع 8: 16)، أي بالتمتع بعمل الثالوث وحضرته وسكناه في الشخص المعمد. هكذا كثيرًا ما يستخدم الاسم في الكتاب المقدس بمعنى الشخص نفسه. فبحبنا لاسم الله إنما نعلن عن حبنا لشخصه وكيانه.

"الذين أعطيتني من العالم كانوا لك": يقصد بالذين أعطيتني مبدئيًا التلاميذ الذين قبلوه، لكن الأمر يمتد ليشمل كل الذين يقبلونه عبر الأجيال ويسمعون كلماته ويتجاوبون معها. مع معرفتهم بأسمائهم لم يذكر اسمًا ما منهم، بل طلب باسم الجميع. يكرر كلمة "أعطيتني" ليقصد بهم الذين صاروا للمسيح خلال الإيمان به. ينسبهم لله أبيه، ويقدمهم الآب له كعطية ليكونوا ورثة المسيح.

بالصليب يقدمهم السيد المسيح للآب مبررين متأهلين للمصالحة معه، والآب بدوره يقدمهم للابن كأعضاء جسده لهم حق الميراث الأبدي. يُنسبون لله الآب بكونهم خليقته الذين نالوا الحياة بابنه، وبكونهم البقية الباقية الأمينة التي تقدست بدم المسيح، وبكونهم المختارين من قبله. "حفظوا كلامك"، أي ثبتوا فيه واستمروا فيه وعملوا به، تُحفظ الوصية بقبولها داخل القلب ويُختم عليها بممارستها عمليًا. ليظهر التزامنا بدقة التعليم، يقول أنه يعطيهم الكلمات التي أعطاها له الآب. هكذا يليق بنا أن نقدم ذات الكلمات التي قدمها لنا السيد المسيح، والتي أوحى بها روحه القدوس على تلاميذه ورسله القديسين. لقد أودع هذه المعرفة الحية في حياة تلاميذه ورسله الذين اختارهم. هؤلاء يحفظون الكلمة، إذ يتقبلون في حياتهم الكلمة المتجسد، وإن كان العالم يرذلهم ويقاومهم.

قال السيد المسيح للآب: "أنا أظهرت اسمك للناس"، إذ أظهر اسمه بأقواله وأفعاله.

وقال: "الذين أعطيتني من العالم" كما قال قبلاً: "لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعط منه" (راجع 6: 65) "إن لم يجتذبه أبي". هكذا يقول هنا "الذين أعطيتني". الآن يدعو نفسه "الطريق"، حيث يؤسس بما يقوله هنا أمرين: أنه لا يعارض الآب، وأن إرادة الآب هي أن يودعهم لدى الابن. "كانوا لك، وأعطيتهم لي". هنا يريد السيد المسيح أن يوضح أن أباه يحبه حبًا عظيمًا، لأنه لم يتوسل إليه أن يعطيه إياهم. وقال: "وقد حفظوا كلامك"، كأنه يقول: حفظوه بأنهم صدقوني.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتساءل القديس أغسطينوس: هل الذين كانوا للآب لم يكونوا للابن؟ حتمًا من هم للآب هم للابن أيضًا، فلماذا يقول: "كانوا لك، وأعطيتهم لي" (٦)؟ كانوا للآب كما للابن الكلمة، وإذ جاء للعالم متجسدًا قبلوا الابن المتجسد فصاروا تلاميذ له. لم يقل: "كانوا لنا" لأن الابن وهو من الآب ينسب السلطان للآب.

"والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك"(7).

لو جاز أن سأل أحد السيد المسيح: ومن أين علموا ذلك؟! لأجاب: من أقوالي، لأنني علمتهم هذا. ما يقدمه السيد المسيح لتلاميذه هو التعليم الإلهي السماوي، أما جوهره فهو اكتشاف شخصيته أنه من عند الآب خرج. يدرك المؤمنون أن السيد المسيح هو الكلمة الإلهي المتجسد، تعاليمه هي حقائق إلهية، ووصاياه شريعة سماوية، ووعوده صادقة وأمينة لأنها إلهية. أعطيتهم الكلمات والتعاليم التي لك، فصار لهم التعليم النقي الصادر مباشرة من السماء، والذي لا يمتزج بتعاليم بشرية مفسدة لكلمة الحق. لقد تأكدوا في يقين إني المسيح الموعود به، وها هم لا يطلبون آخر، إنهم يتمتعون بعملي الإلهي وتعاليمي السمائية.

لقد قدم حياته مبذولة من أجل العالم كله، لكنه إذ يصلي أو يشفع بدمه إنما يقدم الذين قبلوه ويؤمنون به. إنه يموت من أجل العالم كله، لكن الرب يعرف تمامًا من يُصرون على رفضه، فهم ليسوا له. لذلك فإن عينيه على وجه الخصوص على الذين أُعطوا له من العالم. أما الذين يصرون على رفضه فيبقون في العالم كالتبن الذي تهب الرياح فتبدده، أو يُلقى في النار، إنه تبن بلا قيمة.

إنه لا يشفع فيمن صمموا أن يملأوا كأس الشر والتمرد وعدم الإيمان، ليس لعدم حبه لهم، وإنما لرفضهم عمله فيهم. إنه لم يقل: "إني أطلب ضدهم"، فهو لا يحمل كراهية، إنما هم الذين يبغضونه ولا يقبلونه. أما نحن فإذ لا نعرف من هم للرب ومن هم ليسوا للرب، ولا نستطيع أن نحكم على أحدٍ، لذلك نلتزم بالصلاة من أجل كل الناس (١ تي ٢: ١، ٤). فحيث يوجد نَفًسْ واحد في إنسان ما نترجى خلاصه، وبهذا الرجاء تجد الصلاة لها مكانًا، فنردد ما يقوله صموئيل النبي: "وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم" (١ صم ١٢: ٢٣).

لقد كرس السيد المسيح إمكانياته الإلهية لحساب مختاريه لكي يتأهلوا للكرازة بإنجيله في العالم كله. ويصلي من أجل بني البشر الذين يحملهم فيه أبناء لله، لهم حق الشركة في الميراث، ولم يذكر أنه يصلي من أجل السمائيين. بالحب المتبادل في طاعة للآب يقدم الابن المتجسد دمه ثمنًا لخلاص البشر، وفي حب للابن يقدمهم الآب للابن عروسًا مقدسة. يتقبل الابن هذه العطية من الآب التي لحساب البشر، حيث يُحسبون الأواني المكرمة.

الذين قبلوا كلمة السيد المسيح وآمنوا بها دخلوا في ميثاق جديد مع الآب، فحسبهم السيد المسيح أنهم للآب، إذ يقول: "إنهم لك". وهم عطية الآب للابن، إذ أعلن الآب محبته للبشر ببذل ابنه الوحيد الجنس، وإذ تقبلهم الابن كعطية من أبيه حسبهم للآب، إنهم باكورة الله (رؤ ١٤: ٤). خلال الوحدة الحقيقية نُحسب للابن كما للآب، إننا شعب الله الآب، وشعب المسيح. هل تتحدث معه كما مع إنسان بلا معرفة؟... ألا ترون أن هذه الصلاة ليست إلا لكي يفهموا حبه لهم؟

فإن الذي ليس فقط يعطي ما له، بل ويطلب من آخر أن يفعل ذات الشيء، إنما يظهر حبًا أعظم. ماذا إذن "أنا أسأل من أجلهم"؟ يقول: "لست أسأل من أجل العالم، بل من أجل الذين أعطيتني". إنه يضع على الدوام "أعطيت" لكي يدركوا أن هذا يحسبه الآب أمرًا صالحًا. ولأنه علي الدوام كان يقول: "لأنهم لك" و"أنت أعطيتني إياهم"، فلكي ينزع أي شك شرير، ولئلا يظن أحد أن سلطانه حديث، وأنه نال ذلك حديثًا، ماذا قال؟ "وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (10).

القديس يوحنا الذهبي الفم

يضيف "لأنهم لك" (9). فإن الآب لم يفقد الذين أعطاهم للابن، حيث أن الابن يستمر قائلاً: "كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي" (10). واضح بما فيه الكفاية كيف أن كل ما يخص الآب يخص الابن أيضًا.

من بين ما للابن هو الشعب المقدس بدمه، فهو أيضًا للآب. حقًا يمكن لأية خليقة أن تقول للآب: "كل ما هو لي فهو لك"، لكن السيد المسيح وحده الواحد معه في ذات الجوهر يمكنه القول: "وما هو لك فهو لي، وأنا ممجد فيهم"، فهما واحد ومتساويان في القدرة والسلطان والمجد. ليس بين الآب والابن أي نزاع، ليس بينهما "هذا لك وذاك لي" كما يحدث بين البشر. فمنذ الأزل الآب ولد الابن كالنور من النور، الآب للابن، والابن للآب، لهما جوهر واحد، وطبيعة واحدة.

من هم للآب بالضرورة هم للابن. ومن يقتني الابن ويتعرف عليه يقتني الآب ويدرك أسراره. كل ما قدمه الابن من بركات للخلاص، إنما هي لمجد الآب، كأنما قدمها منه. ليس لدى الابن شيء ما ليس لحساب أبيه، ولا ما لدى الآب ليس من عمل ابنه، لأنه هو قوة الآب وحكمته وكلمة قدرته. إذ صرنا أعضاء في جسد المسيح يقدمنا الرأس إلى الآب بكوننا له، إذ يتمجد الآب فينا، خلال ما ننعم به في المسيح من استماع للكلمة وطاعة وشهادة حقة للحب الإلهي وعمل لحساب ملكوته. ما نفعله باسم المسيح، إنما نمارسه بقيادة روحه القدوس لمجد الآب كما الابن والروح القدس.

"أنا ممجد فيهم": يعلن السيد المسيح مقدمًا عن نجاح كرازة تلاميذه، خلالها يتمجد المسيح في المؤمنين به في العالم. السيد المسيح ممجد في مؤمنيه الذين يسمعون له، ويطيعونه، ويعملون باسمه، ويكرزون بنعمته؛ هذا المجد مقدم للآب أيضًا. يطلب السيد المسيح من أجل المؤمنين به، لأنه هو صاعد إلى السماء، آتٍ إلى الآب، وتبقى أعضاء جسده، أي المؤمنون، تمجد الآب، وتشهد له، خلال حملها لاسم المسيح. لقد كرز التلاميذ، وصنعوا آيات باسم المسيح، والروح القدس الساكن فيهم مجَّد المسيح (يو ١٦: ١٤)، وهو ينسب للآب أيضًا

مع محبتي للجميع بالمسيح ربنا آمين
كل عام و الجميع بألف خير
سامر يوسف الياس مصلح
بيت ساحور - 27-05-2012
القديس يوحنا الذهبي الفم

ليست هناك تعليقات: