أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 11 يونيو 2011

عيد العنصرة

عيد العنصرة - الروح القدس - الأقنوم الثالث

ليكون تعييدنا روحانيّاً. وذلك لأنَّ لكل أحدٍ غيرنا عيداً يخصه. وأما خادم الكلمة. فعيدهُ النطق. ومن النطق ما كان ملائماً للوقت. وليس شيءٌ حسنٌ يسرُّ هكذا لأحدٍ من مؤثري الحسنات مثل حضور من يودّ الأعياد والمواسم الروحانية. ويجب علينا أن ننظر هكذا. وذلك أن اليهودي يعيّد ولكن بما يخصُّ الكتاب لأنه قصد الناموس الجسداني فلم يصل الى الروحاني.


والصابئَ يعيّد أيضاً ولكن بما يلائم الجسم وعلى حسب مذهب آلهتِه وشيطانية الذين منهم مَن أبدع عوارض الفساد على رأيهم أنفسهم ومنهم من كان تكريمهُ من هذه الأعراض فلذلك صار تعييدهم مضاهياً للفساد حتى يكون تكريم الإله عندهم الإثم بعينِه فيفرّ إليهِ عوضاً من الفساد.

ونحن نعيّد أيضاً ولكن بحسب رأينا في الروح. والرأي عندنا: إما أن نقول شيئاً مما ينبغي. وإما أن نعملهُ. وهذا هو تعييدنا أن نخزن للنفس شيئاً مما يثبت وينضبط لا مما ينحلُّ وينصرف. ويطرب الحسَّ قليلاً ويفسدهُ كثيراً ويضرُّ به. على حسب الرأي عندي يكفي الجسم شرَّ ذاتِه فلِمَ يزادِ اللهيب مادَّةً ولِمَ للوحش أن يغمر طعاماً حتى يزيد التمكُّن منهُ بعداً ويصعب على الفكر انقياده. فمن ههنا يجب أن نعيّد تعييداً روحانياً.

فأول الكلام فيما يجب أن نقوله وإن طال الشرح قليلاً فيجب على وامقي الكلام أن يؤثروا التعب في ذلك لنخلط ذلك في هذا الموسم مثل ملذَّة ما وذلك أن أولاد العبرانيين يكرمون السابع على سنَّة موسى. كما أكرم أصحاب بيثاغوروس بعدهم الرابع فجعلوه لهم قسماً. وكما أكرم أصحاب آل سيمون ومركيون عدد الثمانية وعدد الثلاثين فقد سمُّوا دهوراً تسامي ذلك في العدد ولست أعلم على أي رأي وقياس ذلك؟ وأية قوَّة لهذا العدد فيكرمونه بها. ولكن على كل حال هم لذلك مكرومون.

السبت اليوم السابع


إلا أن الظاهر في ذلك أن الله عزَّ وجلَّ أبدع الهيولى في ستة أيام وصوَّرها وزيَّن هذا العالم المنظور بأنواع وصور شتَّى لما خلقه. فلما كان اليوم السابع استراح على ما يدلُّ عليهِ اسم السبت فإنهُ باللغة العبرانية يدلُّ على الراحة.

والكرامة عندهم (عند العبرانيين) ليست في الأيام وحدها بل هي واصلة الى السنين. فكرامة الأيام ولَّدت لهم هذا السبت الذي يكرّمونه دائماً وعلَّته من عدد أيام رفع الخمير عندهم. وأما كرامة السنين فمنها صار السابع من السنين عام الفصح والتسريح.

وليست الكرامة عندهم في السبعة وحدها بل في سبعة السابعين وذلك متشابهٌ عندهم في الايام والسنين. فأمّأ سبعة الأيام فولدت يوم الخمسين يوماً مدعواً عندهم "مقدساً" وأما سبعة السنين فولدت العام الذي يسمونه يوبيلاً وفيه يكون عندهم تسبيل الأرض وعتق العبيد وإطلاق ما اقتني بثمنٍ. فبذا القبيل ليس يزكي الله بواكر الغلات والأبكار وحدها بل نواجم الأيام والسنين أيضاً.

فعدد السبعة المكرَّم عندهم بعث لنا كرامة البنديقستي وذلك أن السبعة إذا كرِّرت بمثلها سبعة كانت خمسين إلا واحداً وهو اليوم الذي أخذناهُ من الدهر المستأنف فهو بعينه يزم ثامن وأول بل هو واحد لا ينحلُّ ولا يزول وهناك ينبغي أن تنتهي سبوت النفوس كما يجب أن يعطى جزءٌ للسبعة بل للثمانية أيضاً بحسبما رأى قوم ممن كانوا قبلنا في قول سليمان.

كما أن ههنا أرواح سميت كريمة لأن أشعياء عندي (أي حسب رأيي) أنه كان يؤثر أن يدعو أفعال الروح أرواحاً. وكلام الرب مطهَّر سبعة أضعافٍ عند داود. والصدّيق مخلَّص من الشدائد ست دفعات والسابعة فهو فيها غير مجروح. والخاطئ فمصفوح عنه ليس سبع مرات فقط بل سبعةً في سبعين وبضدّ ذلك عقاب الشرّ ممدوح فقايين أُخِذَ منه الثأر سبع مرات. أي طولب بالثار عن قتلهِ أخاه.

وأما لامخ فمؤَدٍّ ذلك سبعةً في سبعين لأنه كان قاتولاً بعد الناموس وفرائض الدين. وأما الذين كانوا ذوي شرور فصاروا آخذين في حضونهم سبعة أضعاف ما بُذِر منهم. وبيت الحكمة كان مدعوماً من العمد بسبعة وحجر زربابل فبعدد ذلك عيوناً كان مزيناً. والله ممجدٌ بالتسبيح سبع مرات بالنهار. والعقر ولدت سبعة وأتت بالعدد الكامل وهي ضدٌّ لمن كانت غير تامَّة الأولاد.

وإن تدرجت في النظر في العهد العتيق وجدت أخنوخ السابع في السالفين بالنقلة من المكرمين. ووجدت ابراهيم الحادي والعشرين برئاسة الأبوًّة من الممجدين بزيادة في السرّ مضاعفة لأن السبعة إذا ثُلِّثت كانت بهذا العدد آتية. وقد يجسر أحد من المتجاسرين في كل شيءٍ على الأقدام على آدم الجديد الذي هو إلهنا وربنا يسوع المسيح فيجدهُ من آدم العتيق الذي كان تحت الخطيئة سابعاً وسبعين في العدد بحسب نسبة لوقا المعكوسة.

وأرى أيضاً سبعة ابواق يشوع ابن نون ودورات الكهنة. كذلك بهذا المقدار من الأيام فد هُدِمت أسوار أريحا. وأرى عودة إيليا النبي الثالثة لما عاد على ابن الأرملة الصرفندية قد نفخَت فيه الروح المحيي وأرى نضحهُ على شقق اللحم بهذا العدد قد استدعى ناراً منزلة من عند الله أحرقت الضحية وحكمت على أنبياءِ الخزي لما لم يقدروا على مثل ذلك بما قدموهُ من دعائهم.

وأرى كذلك مراقبة الغمام وقد أمر بهذا الغلامَ سبع مراتٍ. وأرى من أليشع سبع عطفات على ابن الصومانية قد عطفت بالحياة عليه. ومن هذا المعنى أيضاً أذكر الآن منارة الهيكل ذات السبعة القوائم والسرج السبعة. وفي سبعة أيام أرى الكاهن متمّماً وفي مثلها الأبرص مطهَّراً والهيكل في عدد مثلها مجدّداً. والشعب في السنة السبعين من السبي عائداً ليكون ما تقدم في الآحاد في العشرات مكرراً وسرُّ السابع في عددٍ أتمَّ من غيره مكرماً.

وما لي أطيل في القول ويسوع نفسه الذي هو التمام النقي قد رأى أن يغذي في القفر بخمس خبزات خمسة آلاف وبسبع أيضاً أربعة آلاف. وفضل عنهم بعد ما شبعوا أما هناك فاثنتا عشرة قفة وأما هنا فسبعة سلال وليس شيء من ذلك في ظني بغير قياس ولا بعيد من استحقاق الروح.

وأنت إذا تفقدت في نفسك وجدت أعداداً كثيرة فيها ما هو أعمق من ظاهرها إلا ما تحتاج إليه في هذا الوقت أن العبرانيين إمَّا على هذه الأحوال. و‘ما على ما يقرب منها. وإما على ما هو أجلُّ منها يكرمون البنديقستي (العنصرة) ونكرم ذلك نحن أيضاً كما أن ههنا أيضاً من رسوم العبرانيين أشياءَ أُخرى كثيرة معمولة على جهة الرسوم وعائدة عندنا على معنى السرّ.

فإذا كنا قد قدَّمنا في هذا اليوم هذا المقدار من الكلام فسبيلنا الآن أن نصير الى ما يتلو ذلك فيما بعد من القول. فنقول إننا معيدون عيد الخمسين وورود الروح وصلوا الميعاد وتمام الأجل. والسرُّ عظيم القدر وكريم من كل جهة. فجسدنيات المسيح قد انتهت بل الذي انتهى هو أحوال قدومهِ الجسداني لأنني متوقف عن أن أسباب الجسد قد انتهت ما دام لا يقنعني قول بأن الأجود انتزاحهُ عن الجسد.

وقد ابتدأت الآن أسباب المسيح؟ فهي بتولٌ وميلادٌ ودذود وتقميط وملائكة يمجدون ورعاة يتسارعون ومسير كوكب وسجود مجوس وحملهم هدايا وقتل هيرودس اطفالاً وهرب يسوع الى مصر وعودتهُ من مصر وختانتهُ ومعموديتهُ والشهادة لهُ من العلو وامتحانهُ ورجمهُ بالحجارة لأجلنا نحن الذين كان ينبغي أن يعطينا مثالاً للتألم من أجل الكلمة وتسليمهُ وتسميرهُ ودفنهُ ونشورهُ (قيامته) وصعودهُ وأتيانهُ وما نالهُ كثيراً والآن إمّا من قِبل ماقنيهِ من المسبة واحتمالهِ لها لأنهُ طويل الأناة.

وأمّا من قبَل وامقيهِ (محبيه) فمن الاقتضاءِ والتسخُّط وهو ينظر فكما يؤخر الرجز عن أولئك كذلك يؤخر الصلاح عن هؤلاء. أما أولئك فيمهل لهم عطية وقت يكون لتوبتهم وأما هؤلاء فيمتحن ودَّهم ألاّ يكونوا في الأحزان ناكصين وفي الجهاد عن حسن الديانة مقصرين وذلك أصل في التدبير الإلهي وشأن لأحكامهِ التي لا تدرك وبها يقوّم أحوالنا بحكمته. فهذه أحوال المسيح وهذا شأنها وستبصرها فيما بعد زائدة شرفاً. ويا ليتنا كذلك عندها

لماذا ظهر الروح في شبه السنة نارية؟

أما ظهوره في أَلسنٍ فلوضع اختصاصه بالنطق. وأما كونها نارية فأنا أطلب في ذلك إحدى الخصلتين. إما أن يكون ذلك من أجل الطهارة. لأن القول عندنا قد عُرف ناراً مطهرة بحسب ما يعرف ذلك من يريدهُ من مواضع كثيرة. وإما من أجل الجوهر لأن إلهنا نار ونار مهلكة للفساد وإن كنت أنت تتسخط من حيث يضيق عليك أن يكون في الجوهر مساوياً. وأما أن الألسن كانت منقسمة فذلك كان لاختلاف المواهب.

وأما أنها كانت جالسة فلأجل الملوكية والاستقرار في القديسين لأن لله كرسيّاً هو الشاروبيم. وأما نزوله في علية فإن لم يُظَنَّ بي التجاوز عن الواجب فذلك لاستعلاءِ القابلين إياه وارتفاعهم عن الأرضيين لأن هنا علالي مكنوفة بمياه إلهية يسبح الله. ومع ذلك فيسوع نفسه في علية شارك في السرّ الذين كملوا في الرفيعات ليبيّن هذا أنه في بعض المعاني ينبغي أن يتطأطأ الله إلينا بحسب ما عرفت أنه كان في القديم بموسى مصنوعاً وفي معنى آخر سبيلنا نحن أن نرتفع إليهِ ثم يصير هكذا الاتصال فيما بين الله وبين البشريين بامتزاج الرتبتين.

ولكن إذ أثبت كل واحد منهما فيما يخصهُ أحدهما في شرفه والآخر في ذلتهِ فالجود حينئذٍ ممسك عن المخالطة في النوال والتفضل على البشر فلا وصول للمشاركة فيهِ. وقد حصل فيما بينهما هوة عظيمة لا سبيل الى عبورها ولا تكون مانعة للغني وحدهُ عن ألعازر وأحضان ابراهيم المأثورة بل تمنع الطبيعة الكائنة الزائلة عن غير الكائنة الثابتة. وهذا الروح قد أنذر بهِ الأنبياءُ حسب ما قيل "روح الربّ عليَّ الذي بهِ مسحني". وسوف يستقرُّ عليهِ سبعة ارواح.

وانحدر روح الربّ فهداهم وأرشدهم. وروح علم أفعم بصلئيل رئيس صنَّاع قبَّة الزمان. وروح جديد رفع إيليا على عجلة. وطلبهُ أليشع مضاعفاً. وداود اعتضد واهتدى بروحٍ صالح رئاسي وهذا الروح وعد بهِ في الأول على لسان يوئيل النبي في قولهِ: سيكون في الايام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل جسدٍ أي جسدٍِ مؤمن وعلى بنيكم وبناتكم. وما الخ. ووعد به أيضاً يسوع المسيح بعد ذلك لما مجَّد ومُجّد اي مجَّد الآب وجَّدهُ الآب وأما الميعاد فعمرٌ جزيل وهوأن يدوم الى الدهر ويثبت.

أي مع المستحقين له الآن على ممرّ الأوقات. وفي الآخرة مع مَن يستأهله هناك. إذا نحن حفظناهُ في سيرتنا كاملاً وام نطرهُ بمقدار خطايانا. هذا الروح خلق الخليقة والقيامة مع الابن ويحقق ذلك عندك قوله بكلمة الرب تشددت السموات وبروح فيهِ كل قواتها. وقوله روح الإله صنعني ونسمة ضابط الكل هي التي تعملني وقولهُ في موضع آخر ترسل روحك فيخلقون وتجدّد وجه الأرض. وهو الذي يصنع الميلاد الثاني الذي هو روحاني. ويحقق ذلك عندك قولهُ: إنهُ لا يمكن أحد أن يرى ملكوت السموات أو يصل إليها إذا لم يولد من فوق بالروح. وإن لم يتطهر من المولود الأول الذي هو سرٌّ من أسرار الليل بخلقة نهارية مضيئة يخلقها كل أحدٍ في ذاته.

الروح القدس هو روح الحكمة

هذا الروح حكيم جدّاً يحبُّ البشر حبّاً شديداً فإن أخذ شاباً من الرعاة جعله مظفراً بالغرباء ولك شهادة على هذا ظفر داود بجليات وجعلهُ طارداً الأرواح النجسة بالحانهِ وترنمهِ وأشهرهُ على اسرائيل ملكاً وإن أخذ راعي غنم مقلَّماً ثوبهُ جعلهُ نبيّاً فاذكر في ذلك داود وعاموص وموسى كليم الله. وإن أخذ غلاماً ذكياًّ جعلهُ مع صغر سنهِ قاضياً على الشيوخ ويشهد بذلك دانيال الذي غلب الاسد في الجبّ.

وإن مجد صيّادين صادهم المسيح ليتصيدوا العالم بشصّ كلامهم وخذ لي في هذا بطرس وأندريا وبني الرعد الذين أرعدوا الروحانيات. وإن كانوا عشَّارين فهو يربح منهم التلمذة ويصنعهم تجاراً ليسافرون بالأرواح والقائل ذلك متى الذي أمس عشّاراًَ وصار اليوم بشيراً وإن كانوا مضطهدين ملتهبين أَحال غيرتهم وجعلهم كبولس بدلاً من شاول وبلغوا في حسن العبادة ما بلغوهُ في الشرّ.

الروح القدس هو روح الوداعة

وهذا الروح هو روح دعةٍ إلا أنه يحتدُّ على الخطأة فسبيلنا أن نباشرهُ وديعاً لا غضوباً باعترافنا بما هو أهلهُ ونفورنا من مسبَّتهِ ولا نؤثر أن نراهُ ساخطاً سخطاً لا غفران لهُ. وهذا الروح هو الذي جعلني لكم اليوم نذيراً جرياً فإن لم ينلني شيءٌ من المكروه فلَّه المنَّة ولإن نالني فالمنَّة أيضاً كذلك. ففي الأول من هذين الإشفاق على مبغضينا. وفي الثاني يقدسنا. ويكون هذا الثواب خدمتنا في بشارتهِ أن نتوفى بدمائنا.

العنصرة
أمر المسيح تلاميذه، قبل صعوده إلى السماوات، بأن يعودوا إلى أورشليم ويلبثوا هناك إلى أن يلبسوا قوة من العلاء. لقد وعدهم بأنهم سوف يأخذون الروح القدس الذي حكى عنه خلال حياته. وقد تحقق هذا الوعد بعد خمسين يوم من الفصح، في اليوم العاشر لصعوده إلى السماوات. وهكذا، نحن نحتفل بعيد العنصرة "الخمسين" الذي فيه نكرّم الثالوث القدوس وفي اليوم التالي نحتفل بعيد الروح القدس. فعيد الخمسين، "العنصرة"، هو عيد للثالوث القدوس.

لا ننوي الاستفاضة بالكلام عن الأقنوم الثالث، أي الروح القدس، بل سوف نركّز فقط على الأحداث التي تشير إلى المسيح في الكتاب المقدس والآباء القديسين. وعليه، سوف نشدد على الأحداث الخريستولوجية التي تشير إلى الروح القدس. وبما أنه يصعب فهم الخريستولوجيا بمعزل عن العقيدة الثالوثية، سوف فسوف نعالج أيضاً عقيدة سر الثالوث القدوس.

عيد الخمسين، "العنصرة"، هو من ضمن أعياد الكنيسة الإثني عشر، لأنه آخر أعياد التدبير الإلهي. هدف تجسد المسيح كان الانتصار على الموت وحلول الروح القدس في قلوب البشر. إلى هذا، معروف جداً أن هدف الحياة الكنسية والروحية هو أن نصبح أعضاء في جسد المسيح ونكتسب الروح القدس. وهذان أمران مترابطان.

يسمّي كاتب التسابيح عيد العنصرة آخر الأعياد المتعلّقة بإصلاح الإنسان وتجدده: "أيها المؤمنون، لنعيّد بابتهاج العيد الأخير الذي هو آخر العيد لأن هذا هو الخمسيني، غاية الوعد المفترض وإنجازه" (الاستيخولوجيا الأولى في سحر العيد). وهكذا، إذا كانت بشارة والدة الإله هي بداية تجسد الكلمة والتدبير الإلهي، فالعنصرة هو الختام، إذ فيه يصير الإنسان، بالروح القدس، عضواً في جسد المسيح القائم.



أيضاً، يمكننا أن نضع العنصرة وكل ما يتعلّق بالروح القدس وبالمسيح، في هذا الإطار لأنه يستحيل فهم الخريستولوجيا بمعزل عن البنفمتولوجيا (Pneumatology)، ولا البنفمتولوجيا بمعزل عن الخريستولوجيا [الخريستولوجيا هي الدراسة المتعلقة بالمسيح، نسبةً إلى خريستوس، المسيح. بنفمتولوجيا هي الدراسة المتعلّقة بالروح القدس، نسبة إلى بنفما Pneuma، الروح القدس.




معاني الروح القدس:


الأولى:
لقد جرى نزول الروح القدس يوم أحد. وهنا نرى قيمة الأحد، إذ إن أعياد السيد الكبرى جرت فيه. بحسب القديس نيقوديموس الأثوسي، بدأ خلق العالم في اليوم الأول، أي الأحد، بدءاً بالنور؛ وبدأ تجدد الخليقة يوم أحد مع قيامة المسيح؛ وجرى إتمام الخلق يوم أحد بنزول الروح القدس. الآب أتمّ الخلق بمعاونة الابن والروح القدس، الابن أتمّ التجديد بإرادة الآب ومعاونة الروح القدس، والروح القدس أكمل الخلق، منبثقاً من الآب ومرسَلاً من الابن.

بالطبع في هذا الكلام، نعطي أهمية للأقانيم التي أتمّت الجزء الأساسي من إبداع الخليقة وتجديدها وإكمالها. ولكن في النهاية، كما تعلّمنا وكما نؤمن، إن الثلاثة يشتركون في قوة الإله الثالوثي، ولا يمكن فصل أحد الأقانيم أو عزله عن الآخَرَين في الثالوث.

يتطابق عيد الخمسين المسيحي الذي نعيّد فيه لنزول الروح القدس مع عيد الخمسين اليهودي. لقد نزل الروح القدس على الرسل وجعلهم أعضاء في جسد المسيح القائم من الأموات، في اليوم الذي كان فيه اليهود يحتفلون بعيد الخمسين. وهذا العيد هو ثاني أهم أعياد اليهود بعد الفصح، وفيه يحتفلون باستلام موسى لناموس الله على جبل سيناء، بحسب التقليد. بعد أربعين يوماً من أول عيد فصح، صعد موسى إلى جبل سيناء واستلم ناموس الله. لكن في موازاة ذلك، كان عيد الخمسين اليهودي تعبيراً عن شكرهم لقطاف الأثمار. وبما أنّه يتوافق مع فترة الحصاد، فقد سمّوه "عيد الحصاد" وقدّموا فيه بواكير الثمار إلى الهيكل. عيد الخمسين الذي كان اليهود يحتفلون به بفخامة، سُمّي أيضاً عيد الأسابيع (أنظر خروج 22:34، لاويين 15:23-17، عدد 26:28-31، وتثنية 9:16-19).

يشير الإلماح المقتضب إلى عيد الخمسين اليهودي إلى أنّه كان نموذجاً لعنصرة العهد الجديد. إذا كان موسى قد أخذ ناموس العهد القديم في اليوم الخمسين، فالتلاميذ أخذوا الروح القدس في اليوم الخمسين وبالتالي اختبروا ناموس العهد الجديد، ناموس النعمة الإلهية. إذا كان الكلمة غير المتجسد هو مَن أعطى الناموس على جبل سيناء، ففي العهد الجديد، الكلمة المتجسد القائم أرسل الروح القدس إلى التلاميذ الذين كانوا في العليّة، فصاروا أعضاء لجسده البهي. إذا كان اليوم الخمسين في العهد القديم يوم تقديم بواكير الثمار، ففي يوم خمسين العهد الجديد، قُدّمَت بواكير الثمار العقلية من الحصاد الذي زرعه المسيح نفسه، أي أن الرسل قُدِّموا إلى الله.

بالطبع، هناك فرق واضح بين إعلان الله على جبل سيناء، وإعلانه في عليّة أورشليم. لقد كان جبل سيناء "كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا." (خروج 18:19). بالواقع قد أعطيت وصية بألاّ يقترب أحد من الجبل كي لا يموت: " كُلُّ مَنْ يَمَسُّ الْجَبَلَ يُقْتَلُ قَتْلاً." (خروج 12:19). لم يحدث أمر مماثل في يوم نزول الروح القدس في العليّة. لقد امتلأ الرسل فرحاً وتحوّلوا: من رجال خائفين إلى باسلين، ومن مائتين إلى آلهة بالنعمة.

يظهر الفرق بين سيناء وعليّة أورشليم في الفرق بين ناموس العهد القديم وناموس العهد الجديد. في القديم، أُعطي الناموس على لوحين حجريين، والآن الناموس محفور على قلوب الرسل. يقول الرسول بولس: "ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ." (2كورنثوس 3:3). لقد حقّق نزول الروح القدس نبوءة النبي إرميا كما يكتب الرسول بولس: "أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا." (عبرانيين 10:8).

الثانية:
عيد الخمسين هو عيد للروح القدس، لأننا نتعلّم من نزوله أن الله ثالوثي. في السابق أيضاً، بشكل مغمور في العهد القديم وفي تعليم المسيح، كان الناس يتعرّفون إلى الوجه الثالوثي لله، لكن في العنصرة اكتسبوا خبرة عملية عن أقنومه الثالوثي. وهكذا فالعنصرة هو عيد اللاهوت الأرثوذكسي.

في اللاهوت الأرثوذكسي، ما يُقال عن الله (اللاهوت) هو غير ما يُقال عن التجسّد (التدبير). وهكذا، في عيد العنصرة نعبّر عن اللاهوت بطريقة أرثوذكسية، لأننا نفهم أن الله ثالوثي، آب وابن وروح قدس. بحسب التعليم الأرثوذكسي عن الإعلان، الآب بلا ابتداء ولا علّة وغير مولود، أي أنّه لم يأخذ وجوده من أيّ كان، الابن يأتي من الاب بالولادة، والروح القدس يأتي من الآب بالانبثاق. لقد كشف لنا المسيح هذه التعابير: غير مولود، ولادة وانبثاق، ولا نستطيع أن نفهمها عقلياً، لهذا هي تبقى سراً. الحقيقة هي أن الابن والروح يأتيان من الآب بطريقتين مختلفتين، لكل منهما شخصيته الأقنومية، أو طريقة كينونته، لكنهما من ذات جوهره.

بالرغم من أن الآب هو المصدر، والابن مولود والروح منبثق، فللثلاثة نفس الطبيعة-الجوهر والإرادة-القوة. يشترك أقانيم الثالوث القدوس الثلاثة في نفس الطبيعة، نفس الفكر، نفس القوة، وأيّ منهم ليس أعظم من الآخرين. بكلمات أخرى، ليس الابن ولا الروح القدس أدنى مرتبة من الآب. وعندما نتحدّث عن الأقانيم الأول والثاني والثالث في الثالوث القدوس، نحن لا نقارن بينهم بحسب القيمة والرِفعة والقدرة، بل بحسب طريقة الكينونة (القديس باسيليوس الكبير). في النهاية، يعجز المنطق البشري والفهم البشري والكلمات عن صياغة سر الإله الثالوثي.

لقد عاش الآباء القديسون هذا السر بقدر ما استطاعوا في خبرة الإعلان. يتحدّث القديس غريغوريوس اللاهوتي عن ثلاثة أنوار تلمع حوله خلال الرؤيا التي رآها فيكتب: "ما أن فهمت الواحد، حتى أحاط بي ثلاثة أنوار، وما أن فرّقت بين الثلاثة حتى عدت إلى الواحد".

لقد كشف لنا المسيح بنفسه سر الثالوث القدوس، حين أخبر تلاميذه بأن الروح القدس ينبثق من الآب وهو نفسه يرسله (يوحنا 26:15). هذا يعني أن الابن لا يشارك في انبثاق الروح القدس، بل في إرساله وفي إيفاده إلى العالم، وهذا الإرسال هو إظهار للثالوث القدوس في قوته. وهكذا، على ما يشرح القديس غريغوريوس بالاماس، ينبثق الروح القدس من الآب، ولكننا نستطيع القول بأنه مرسَل من الابن فقط في قوته وظهوره إلى العالم وليس في كينونته بالجوهر. إن كينونة الروح القدس أمر مختلف عن ظهوره في القوة.

الآب مكتفٍ بذاته، وقبل الأزمنة ولد الابن، إلهاً مساوياً له بذاته، ويرسل الروح القدس، إلهاً مساوياً، من دون أن تنقسم الألوهة بانفصال الأقانيم، بل تتوحّد من دون تشوش من تعداد الثالوث. إن ولادة الابن من الآب وانبثاق الروح منه لا يعنيان أن الروح أكثر فتوة لأن الزمان لا يطرأ بين عدم ولادة الآب وولادة الابن وانبثاق الروح القدس. إن أقانيم الثالوث القدوس أبدية ومن غير ابتداء، متساوون بالرتبة والشرف.

الثالثة:
إن خلق العالم وإعادة خلقه هما عمل مشترك للإله الثالوثي. هذه الحقيقة اللاهوتية هي ما يقودنا إلى القول بأن عمل المسيح وعمل الروح القدس ليسا مختلفين. نقول هذا لأن هناك خطر ممكن وجديّ يكمن في الكلام عن تدبير المسيح وكأنه مستقل عن الروح القدس، وفي الكلام عن تدبير الروح القدس وكأنه منفصل عن المسيح.

كلمة الله صار إنساناً بإرادة الآب الصالحة وبالتعاون مع الروح القدس. حُبِل بالمسيح في رحم والدة الإله الفائقة القداسة "بالروح القدس". من ثمّ المسيح، بعد قيامته، وبالتأكيد في يوم العنصرة، أرسل الروح القدس، لأن الروح القدس مرسَل من المسيح. وعندما أتى إلى الرسل شكّل المسيح في قلوبهم، أي جعلهم أعضاء جسد المسيح. لهذا لا يمكننا الكلام عن اختلاف بين عمل الابن وعمل الروح القدس.

يظهر هذا جلياً في الكتاب المقدس. خلال حياته، كان المسيح يشفي قلوب الرسل ويطهرها بتعليمه، بإعلانات أسراره وبمعجزاته. ولهذا قال في النهاية: "أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ" (يوحنا 3:15). وفي مكان آخر قال أن مَن يحبه ويحفظ كلمته، فسوف يحبه الآب أيضاً "وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً." (يوحنا 23:14).

أن يصنع الآب والابن منزلاً عند الإنسان الذي تطهّر وتقدّس لا يعني أنّه محروم من حضور الروح القدس أو أن الروح القدس سوف يكون مفصولاً عن عمل التقديس. إذ في مكان آخر، يعِد المسيح تلاميذه بأنه سوف يرسل الروح القدس الذي ينبثق من الآب ويكون "مَاكِثاً مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يوحنا 17:14). إذاً، مَن يحصل على نعمة الإله الثالوثي يصبح عضواً لجسد المسيح ومكاناً لسكنى الله الآب وهيكلاً للروح القدس، وبتعبير آخر وعاءً للإله الثالوثي.

في طروبارية من قانون عيد العنصرة، يصف القديس يوحنا الدمشقي الروح القدس كعلامة للابن المولود من الآب، لأنّه يكشف ويظهِر كلمة الله، إذ "من دون الروح القدس لا يُفهَم الابن المولود الوحيد" (القديس غريغوريوس النيصصي).


إلى هذا، يقول الرسول بولس "لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ:«يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ." (1كورنثوس 3:12). ويُدعى الروح القدس أيضاً علامة للكلمة لأنه وجّه التلاميذ بحسب ما تعلّموا وذكّرهم بما قال المسيح لهم. لهذا السبب هو إشارة. بتعبير آخر، من خلال الروح القدس ظهر أنّ المسيح هو ابن الله الحقيقي وكلمته، وقد ظهر اشتراك الابن والروح القدس في الطبيعة نفسها وإجماعهما من خلال التعليم المشترك.

ابن الله وكلمته مجَّد الآب بتجسده. في يوم العنصرة، نزل الروح القدس على التلاميذ وبهذا مُجّد الابن (ليون الحكيم). على هذا الأساس يمكننا القول بأن الآب مجد الابن بتسميته "ابناً محبوباً"، الابن تمجّد بما فعله بالتناغم مع الروح القدس. الابن مجّد الآب في كل عمله لخلاص الجنس البشري؛ وفي الوقت نفسه مجّد الروح القدس لأنه أظهره وكشف عنه للتلاميذ؛ ولكن أيضاً الروح القدس، الذي يعمل بكثافة في الكنيسة، يمجّد الآب الذي منه يأتي، ويمجّد الابن لأن كثيرين من الذين يأخذونه يصبحون أولاداً لله وأعضاء في جسد المسيح.

واضح من كل هذه الأمور أن عمل الابن وعمل الروح القدس ليسا مختلفين. إن خلاص الإنسان هو عمل مشترك للإله الثالوثي. هذا هو الموضوع المهم، وسوف نرى هذه الحقيقة اللاهوتية العظيمة، بشكل أفضل، من خلال ما سوف نذكر في القسم التالي.

الربعة:
لقد أعطي الروح القدس أسماء كثيرة. أحدها، وهو يظهِر العمل الذي يعمله في الكنيسة كما في حياة الناس، هو "المعزّي". المسيح نفسه استعمل هذه الكلمة عندما قال لتلاميذه قبل آلامه بوقت قصير: "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الْحَقِّ". وبعد هذا بقليل يقول المسيح عن الروح القدس بأنه المعزي الذي سوف يعلّم التلاميذ ويذكّرهم بكل ما قاله في حياته. "أَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ." (يوحنا 26:14). وإذ نحن واثقون من أن الروح القدس هو المعزي نصلي إليه "أيها الملك السماوي، المعزي، روح الحق...".

إن الروح القدس يعزّي الإنسان المجاهد ضد الخطيئة، الذي يسعى إلى حفظ وصايا المسيح في حياته. هذا الصراع صعب، لأنّه الحرب ضد الأرواح الشريرة. لهذا، فالروح القدس هو المعزي، أو الذي يريح الناس، بحسب ما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. إنه علامة على أن الله يؤاسي الناس، لهذا يوصف بنفس العبارات كما الروح القدس.

الأمر المهم في الدراسات الخريستولوجية التي نقوم بها هو أن المسيح يصف الروح القدس بأنّه "المعزي الآخر". هذا لأن المسيح أيضاً هو معزٍّ يؤاسي الناس. في رسالته الجامعة، يدعو الإنجيلي يوحنا اللاهوتي المسيحيين إلى عدم الخطيئة، لكنه يقول أيضاً أنّهم ولو أخطأوا فعليهم ألاّ يتخاذلوا لأن "فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ" (1 يوحنا 1:2). إذاً، المسيح والروح القدس هما معزيان في العالم. بالطبع الله الآب هو معزي الناس لأن التعزية هي عمل مشترك للإله الثالوثي.

إن عبارة "المعزي الآخر" تعني أن المسيح والروح القدس هما أقنومان مختلفان، لكن لهما الطبيعة والجوهر والقوة نفسها. في تفسير هذه العبارة، يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أنها تشكّل وتصف "الشركة الإلهية" والاشتراك في نفس الطبيعة عند الأقنومين. أن يقول المسيح بأنه سوف يرسل معزياً آخراً تعني أنه هو نفسه معزٍّ. بهذا يمكن أن نرى المساواة في الشرف بين المسيح والروح القدس.

الخامسة:
يشترك الروح القدس مع الابن والآب في نفس الجوهر، لأن لأقانيم الثالوث الثلاثة نفس الجوهر والطبيعة والقوة والإرادة والمجد. لهذا، حيث يكون المسيح يكون الروح القدس وحيث يكون الروح القدس يكون المسيح. لقد ركّزنا على أن الأقانيم غير منفصلين ولا عملهم مستقل. يقول القديس مكسيموس المعترف بأن الروح القدس فاعل في كل الناس لكن بطريقة مختلفة في كل منهم. فهو يعمل في الجميع من دون استثناء لأن الجميع مخلوقون من الله، القادر على جمع البذار الطبيعية وتأمينها وجعلها تتحرّك.


ففي الذين في زمن الناموس ينثر النور بالوعد بالمسيح من خلال الوصايا. وهو يعمل في العائشين بالمسيح ليجعلهم أبناء بقوة الروح القدس. وفي المتألهين، أي الذين جعلوا أنفسهم يستحقون المواطنية في الله وسكنى القوة الإلهية، فهو يعمل كحكمة مبدعة. هكذا، الروح القدس فاعل في الكل ولكن في كل واحد بشكل مختلف، بحسب وضعه الروحي.

في هذا الضوء نفهم أن الروح القدس كان فاعلاً في العهد القديم كما في الأنبياء، لأنهم بقوة الروح القدس رأوا الكلمة غير المتجسّد وتنبؤوا عن الكلمة المتجسد أي المسيح. نحن نعرف جيداً من اللاهوت الأرثوذكسي أن كل إعلانات الله في العهد القديم كانت إعلانات الكلمة غير المتجسد أي الأقنوم الثاني. وبما أن الابن لا يتواجد من دون الروح القدس، فالروح هو مَن أظهر الكلمة غير المتجسد للأنبياء وكشف لهم الأسرار المقبلة.

يقول القديس باسيليوس أن الروح القدس أتى إلى نوس الأنبياء فتنبأوا بالأمور الحسنة الآتية. مثال مميز هو حالة يوحنا السابق الذي كان مملؤاً من الروح القدس في بطن أمه منذ أن كان جنيناً ذا ستة أشهر، وعلى ما يقول القديس غريغوريوس بالاماس، بأنّه بالروح القدس تلقّى التأسيس للزمان الآتي في بطن أمه وصار لاهوتياً بالمسيح. وبالواقع نحن رأينا في عيد اللقاء أن سمعان البار تعرّف إلى المسيح بالروح القدس.

لهذا، فالروح القدس كان فاعلاً في العهد القديم كما في الجديد، أي الكنيسة، ولو بصورة مختلفة. إذ، كما ذكرنا سابقاً، في العهد القديم أشار إلى الأنبياء عن عصيان الوصايا وكشف مجيء المسيح، بينما في العهد الجديد هو يجعل البشر أبناء لله وأعضاء في جسد المسيح ويقودهم إلى التألّه.

السادسة:
يعتمد تجسد ابن الله وكلمته على الروح القدس، ومثله كل عمل التدبير الإلهي. هذا ما يعبّر عنه القديس باسيليوس الكبير بوضوح كبير إذ يقول بأن المسيح، عندما أتى ليسكن في العالم، سبقه الروح القدس معلناً مجيئه وكاشفاً حضوره. كذلك، الروح القدس لا ينفصل عن حضور المسيح المتجسّد في العالم، فإنجاز القوى والمواهب والأشفية وإخراج الشياطين من الناس هو بقوة روح الله. الشياطين تُسحَق بحضور الروح القدس. كما أن الحلّ من الخطايا هو بنعمة الروح القدس. ومثله إقامة الموتى.

وإذا كان الروح القدس عمل في أنبياء العهد القديم وأبراره، مشيراً إلى المسيح وكاشفاً إياه، فكم بالحري هو كان فعاّلاً في رسل المسيح وتلاميذه. لكن بما أن الروح القدس يعمل بحسب حالة الإنسان وفي الوقت المناسب، فقد عمل فيهم بثلاث طرق وفي ثلاث أوقات. فقد عمل "بشكل خفي" قبل أن يتمجّد المسيح بآلامه، أي قبل تألمه وتضحيته على الصليب، و"بشكل أكثر وضوحاً" بعد قيامته، و"بالشكل الأكثر كمالاً" بعد صعوده إلى السماوات. إلى هذا، الروح القدس يكمّل ويقدّس الناس ولا يتكمّل هو لأنه إله كامل. الروح القدس "يكمّل" ولا "يتكمّل" (القديس غريغوريوس اللاهوتي). وعليه فقد كمّل الرسل وملأهم إذ كانوا غير كاملين.

قال كلمة الله غير المتجسد، ابن الله، بنبيه يوئيل "وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا" (28:2). واضح هنا أنّه يتكلّم عن مجيء الروح القدس ومنح موهبة النبوءة الذي تمّ في يوم العنصرة. بحسب القديس كيرللس الإسكندري، تشير النبوءة إلى الأحداث التي جرت يوم العنصرة حيث راح التلاميذ يتكلّمون نبوياً معلنين أسرار المسيح التي سبق وأخبر عنها الأنبياء. بتعبير آخر، لقد فهم التلاميذ في ذلك الحين بقوة الروح القدس أن كل نبوءات العهد القديم أشارت إلى شخص المسيح. وبهذا تكمّلوا في المعرفة والوحي.

تعود الطبيعة البشرية إلى حالتها السابقة بقوة الروح القدس، لأنها تمتلك الموهبة النبوية التي كانت لآدم في الفردوس من النعمة (القديس نيقوديموس الأثوسي). بالواقع، في نظرنا إلى حياة آدم قبل السقوط، نميّز أنّه كان لنا نوس نقي وكنا نتنبّأ. الله أوجد حواء من جنب آدم في نومه، لكن عندما استيقظ ورآها، استنار بالروح القدس واعترف بأنها جاءت من جسده: "هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تكوين 23:2).

هذا يعني أن كل الذين يحصلون على الروح القدس ويصيرون أعضاء للكنيسة لا يعودون فقط إلى الحالة السابقة التي كان آدم فيها، بل يقومون إلى أعلى من ذلك لأنّهم متّحدون بالمسيح. مَن عنده الروح القدس يصير نبياً، يكتسب المواهب النبوية، على ما نرى في حياة القديسين، ويعرف أسرار المسيح ويرى ملكوت الله ويختبره. بقوة الروح القدس ومقدرته، تصبح الموهبة النبوية حالة طبيعية للإنسان. الصلاة النوسية هي إشارة إلى عطية الروح القدس هذه وقوته.

السابعة:
إن الطريقة التي عمل بها الروح القدس في العهد القديم ظاهرة بوضوح عند الكنيسة. في دراستنا يمكننا أن نرى بعض الأوجه المثيرة للاهتمام والتي تظهر العلاقة القوية بين الخريستولوجيا والبنفماتولوجيا.

بحسب آباء الكنيسة القديسين، لقد كانت الكنيسة موجودة حتى قبل التجسّد، إذ إن بدايتها هي مع خلق الملائكة والإنسان. بسقوط آدم سقطت الكنيسة، ومع ذلك هي ما زالت محفوظة في أنبياء العهد القديم وأبراره بشكل عام. بالرغم من وجود الكنيسة، إن ناموس الموت ما زال ملزِماًً وبالتالي، فيما أبرار العهد القديم بلغوا التألّه وعرفوا الكلمة غير المتجسّد، إلا أن قوة الموت سادت عليهم (الذهبي الفم)، وهكذا ذهبوا إلى الجحيم.

بتجسد المسيح، الذي تمّ بالروح القدس، اتّخذ المسيح "جسد الكنيسة" (الذهبي الفم)، أي أنّه اتّخذ الطبيعة البشرية النقية غير المسلوبة وأتحَدَها بألوهته. بهذه الطريقة صار للكنيسة رأس وصارت جسد المسيح. يقول إكليمندس الروماني أنّ الكنيسة كانت في البداية روحية وقد خُلقَت بظهور الملائكة، لكن لاحقاً بتجسّد المسيح "ظهرت في جسده"، صارت جسداً. كون التجسّد تمّ بتكافل الروح القدس، وكون ما يجري في الكنيسة يتمّ بقوة الروح القدس، فالعنصرة مرتبطة بالكنيسة.

قال المسيح مرة لبطرس "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 18:16). هذا تحقق بموت المسيح على الصليب ونزوله إلى الجحيم. نفس المسيح وألوهيتها نزلا إلى الجحيم، فيما جسده وألوهية هذا الجسد بقيا في القبر. هكذا غُلبت قوة الجحيم، أي الموت. إذاً، لم يكن للموت سلطان على الكنيسة ولا يمكن أن يكون له، كونها جسد المسيح.

تأسست الكنيسة يوم العنصرة، أي أن الرسل صاروا أعضاء لجسد المسيح. وهكذا، فيما كانوا سابقاً في شركة مع المسيح، صاروا الآن بقوة الروح القدس وفعله أعضاء لجسد المسيح. تغيّرت الكنيسة من روح إلى جسد. كان للقديسين، المتألّهين، علاقة وشركة ليس فقط مع الكلمة غير المتجسّد بل أيضاً الكلمة صار جسداً، أي المسيح الإله الإنسان. يشرح الرسول بولس لاهوت كون الكنيسة جسد المسيح والقديسين أعضاءه (1كورنثوس 1:12-31). فهو يقول أن الكنيسة ليست مؤسسة دينية بل هي جسد المسيح، وبأن توزيع مواهب النعمة يتمّ بقوة الروح القدس. استنتاجاً يقول الرسول بولس: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا" (1كورنثوس 27:12).

ينبغي أن نضيف أنه يظهر في تعليم الآباء القديسين حقيقتان تبينان القوة المشتركة بين الأقانيم. المسيحيون هم أعضاء جسد المسيح (1كورنثوس 27:12)، وفي الوقت عينه هم هياكل للروح القدس (1كورنثوس 19:6). ولا تلغي الواحدة الأخرى.

الثامنة:
إن نزول الروح القدس في يوم العنصرة لا يعني أنه كان غائباً قبلاً، بل إلى أنّه يعمل في طريقة مختلفة، كما أشرنا سابقاً. يمكننا أن نعرض نقطتين تفسّران نزول الروح القدس وفعله المختلف. النقطة الأولى هي أنّ الرسل فهموا في يوم العنصرة أنّ الروح القدس هو أقنوم محدد وليس مجرّد قوة من قوى الله. الروح القدس، الذي ظهر باهتاً في العهد القديم كنَفَس، كَصوت، كَحفيف نسمة، كوحي للأنبياء، يستعلن في العنصرة كَأقنوم موجود بذاته. إذاً، عندما اكتملت الأحداث التي أظهرت أقنوم الابن، بدأت الأحداث التي أظهرت أقنوم الروح القدس (القديس غريغوريوس بالاماس).

النقطة الثانية التي بها نفسّر نزول الروح القدس يوم العنصرة هي أنّ الروح القدس جعل التلاميذ أعضاء جسد المسيح وأعطاهم القدرة على المشاركة في انتصار المسيح على الموت. القديس نيقوديموس الأثوسي، في تفسيره لنزول الروح القدس، يستعمل اقتباسات من القديسين نيكيتا ستيثاتوس وباسيليوس الكبير، فيها أنّه لم ينزل كخادم، بل كسيّد ذي سلطان. كما أنّ الابن كلمة الله تجسّد بإرادته الذاتية، طوعياً، كذلك الروح القدس بإرادته الذاتية جعل الرسل أعضاء في جسد المسيح. إلى هذا، إرادة الآب هي أيضاً إرادة الابن والروح القدس، وبالعكس. إن القدرة والإرادة مشتركتان في الثالوث القدوس.

تختلف الحرية عند الله والملائكة والبشر. فالله يمتلك الحرية "بشكل بارز سامٍ وفائق الجوهر". لا يمكن مقارنة الله بالمعطيات البشرية. تمتلك الملائكة الحرية طبيعياً، لكنهم يمارسونها من دون إعاقة، ويرغبون باستعمالها مباشرة إذ ليس لديهم ما يعيقهم عن ممارستها، إذ ليس لهم لا جسد ولا أي قوة معارضة أخرى. البشر مستقلّون وذوو حرية، لكن إرادتهم الحرة قد فسدت وليس من السهل عليهم أن يتحمّلوا رغباتهم. لهذا السبب يحتاج الرغبة والإرادة الحرة إلى القوة من الله. يأتي في العهد القديم أنّ مَن يسمع "يَنَالُ رِضًى مِنَ الرَّبِّ" (حكمة 35:8). ويكتب الرسول بولس: "لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ." (فيليبي 13:2).

هذا يعني أن الروح القدس نزل إلى قلوب الرسل وهو يعمل في البشر من خلال إرادتهم الذاتية وليس وكأنهم عبيد. لكن على البشر أن يتجاوبوا مع قوة الروح القدس بإرادتهم، لأن الله لا ينتهك حريتهم. في أي حال، ينبغي دعم الشهوة والإرادة الحرّة من الله لأن الإنسان في حالة السقوط مستعبَد وكائن تابع.

بالإجمال، عندما نتحدّث عن نزول الروح القدس في يوم العنصرة، لا يمكننا فهمه كتجسّد، لأن الابن كلمة الله هو الذي تجسّد، ولكن كظهوره الأقنومي (الشخصي) في العالم، الذي غيّر الرسل وحوّلهم من قابلين للموت إلى أعضاء حيّة في جسد المسيح.

التاسعة:
بالمعمودية المقدّسة يصير الإنسان عضواً في الكنيسة، أي عضواً في جسد المسيح. العنصرة كان يوم معمودية التلاميذ لأنّهم صاروا فيه أعضاء جسد المسيح. بالتالي، المسيح ليس معلمهم وحسب بل هو رأسهم. لقد قال المسيح لتلاميذه مباشرة بعد قيامته: "لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ". عندما نزل الروح القدس عليهم، عمَّدهم، وهكذا امتلأ البيت الذي كانوا فيه منتظرين وعد الآب، فامتلأوا من الروح القدس الذي حوّل المنزل إلى جرن معمودية روحي (القديس غريغوروس بالاماس).

صار حضور الروح القدس في العلية مصحوباً بريح قوية. يكتب الرسول لوقا: "وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ الْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ". هذه الريح العاصفة قد صوّرَت مسبَقاً وكانت متوقَّعَة في عدة مواقع في العهد القديم. لإنها الصوت الذي سمعته والدة النبي صموئيل يقول: "مِنَ السَّمَاءِ يُرْعِدُ عَلَيْهِمْ. الرَّبُّ يَدِينُ أَقَاصِيَ الأَرْضِ" (1صموئيل 10:2). رؤيا النبي إيليا لله تنبأت عن هذا الصوت عندما رأى الله في صوت النسمة الخفيفة. المسيح أوحى بهذا الصوت عندما قال: "مَن كان عطشاناً فليأتِ إليّ ويشرب"، إذ بهذه العبارة القوية عنى الروح القدس الذي كان مزمعاً أن يتقبل كل المؤمنين به. على المنوال نفسه، لقد أشير إليه مسبقاً بنفخة المسيح في تلاميذه بعد قيامته معطياً إياهم الروح القدس لكي يغفروا الخطايا.

لظهور الروح القدس كمثل ريح عاصفة معنى، لأنه يظهر أن الروح القدس يغلب كل شيء، يخترق جدران الشر، يهدم مدن العدو وكل قلاعه. في الوقت نفسه هو يواضع المغرور ويرفع المتواضع القلب، يضمّ ما قد انكسر ويكسر رباطات الخطيئة ويعتق الذين في الضيقات (القديس غريغوريوس بالاماس). بقوة الروح القدس يصير الإنسان عضواً للكنيسة ويغلب كل قوى العدو ويقهر حتى الموت نفسه.

العاشرة:
إن ظهور الروح القدس في يوم العنصرة يبرِز أن عمل المسيح لا يختلف عن عمل الروح القدس. يكتب الإنجيلي لوقا، الذي هو كاتب أعمال الرسل ايضاً: "وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ". في تحليله لهذه النقطة، يقدّم القديس غريغوريوس بالاماس ملاحظات لاهوتية مهمة نشير إليها هنا لأنها تظهر مساواة الروح القدس للابن في الشرف والمجد.

أولاً، الظهور المدرَك بالحواس للروح القدس كان على شكل ألسنة لإظهار الاتحاد مع كلمة الله، إذ لا شيء أكثر ارتباطاً بالكلمة من اللسان. فقد أظهر بهذا أن عمل الروح القدس لا يختلف عن عمل كلمة الله. في الوقت نفسه، برز حسياً من خلال اللسان ليقول أنه ينبغي بمعلم الحقيقة أن يكون ذا لسان مملوءاً بالنعمة. لقد كانت الألسنة نارية ولهذا أيضاً معنى كبير. إنّه يظهر مساواة الروح القدس للآب والابن بالجوهر لأن الله "نار آكلة".


يشير هذا الظهور إلى أن للروح القدس نفس الطبيعة والقدرة كما للآب والابن. النار تضيء وتحرق. إنها مثل تعليم المسيح تماماً: تنير الذين يطيعون وتعاقب الذين يعصون. بالطبع، هذه النار التي ظهر فيها الروح القدس لم تكن مخلوقة، إذا لم يقل الإنجيلي القديس "ألسنة نارية" بل قال "ألسنة كما من نار". توزعت ألسنة النار على رؤوس الرسل ولهذا أيضاً معناه، إذ يريد أن يظهر أن للمسيح وحده كل القدرة والقوة الإلهيتين، كونه مساوٍ للآب والروح بالطبيعة. ليست النعمة التي يحصل عليها القديسون من طبيعة الله، بل هي قوته التي تعطي مواهب النعمة المختلفة لكل واحد.


لا أحد يمتلك النعمة الإلهية كاملة إلاّ المسيح وحده الذي عنده ملء نعمة الله في الجسد. يظهر من استقرار هذه الألسنة على رؤوس الرسل، قيمة السيد ووحدة روح الله. ليست قوة مخلوقة، بل هي قوة الله غير المخلوقة، ولهذا تصوَّر وكأنها جالسة، إشارة إلى المجد الملوكي. في الوقت نفسه، نعمة الله وقوته منفصلتان، فهما تبقيان واحداً. الروح القدس موجود فعلياً وفاعل "منفصلاً من دون انفصال، ومساهَماً فيه بالكلية، مثل شعاع الشمس". هذا يعني أنه فيما يحصل الكل على نور الشمس وفي الوقت نفسه يحصلون أيضاً على قوتها غير منقسمة. عندما يحصل الإنسان على المناولة المقدسة مشترِكاً في جسد المسيح ودمه، لا يشارك في جزء من جسد الرب، بل في كامل الجسد. يقول الكاهن في القداس: "حمل الله الذي يُكسَر ولا ينقسم، الذي يؤكَل ولا ينفد".

إذاً، قوة الروح القدس هي أيضاً قوة الكلمة والآب، إنها قوة الإله الثالوثي. خلاص الإنسان هو في الاشتراك في قوى الثالوث القدوس غير المخلوقة.


الحادية عشر:
بعد أن وعد تلاميذه بأن يرسل الروح القدس، أعطى المسيح وصية واضحة: "َأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي" (لوقا 49:24). حفظ التلاميذ هذه الوصية وبقوا معاً في العلية في أورشليم في السكينة والصلاة منتظرين تدفق موهبة الروح القدس. هذا ما يؤكده الإنجيلي لوقا: "وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ" (لوقا 53:24).

عند هذه النقطة سوف أتوقف قليلاً عند عبارة "إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي" لأنها مميزة. فالمسيح لم يقل أنّهم سوف يحصلون على الروح القدس وحسب بل سوف يلبسونه، كمثل بزة روحية من الدروع لمجابهة العدو. لا يتعلّق الأمر باستنارة أذهانهم، بل بالتحّول الكامل في كيانهم. لن يبقى أي نقطة في أجسادهم ولا قوة في نفوسهم من غير أن تغطيها قوة الروح القدس. معروف أنّ بالمعمودية المقدسة، التي تُعتَبَر سراً تمهيدياً لأنّها تدخلنا إلى الكنيسة ونصير أعضاء في جسد المسيح، نحن نلبس المسيح "لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ" (غلاطية 27:3).


وأيضاً نحن نلبس الروح القدس في الوقت نفسه بحسب الوعد المعلَن للمسيح. إلى هذا، هذا هو هدف سرَّي المعمودية والميرون المترابطين.

إن لبس الروح القدس ليس خارجياً ولا سطحياً، لكنه داخلي كاتحاد الحديد بالنار. فالحديد المُحَمَّى يكون مشتعلاً بالكلية، وليس جزئياً فقط. وهكذا كل الذين يحصلون على الروح القدس يشعرون به يملأ قلوبهم وينير أعينهم ويقدّس آذانهم ويخمد أفكارهم السيئة، فيُمنَحوا الحكمة ويمتلئوا بالنعمة. إنهم يختبرون الشيء نفسه الذي اختبره رئيس الشمامسة أول الشهداء استفانس، الذي أظهر أولاً للسنهدرين البركةَ التي منحه إياها الروح القدس في نفسه، ومن ثمّ أبرز مجد الإنسان (مكسيموس خريسوكافلوس). إذاً، قوة الروح القدس تقدّس وتنير كامل الكيان البشري.

نحن نرتّل الترنيمة التالية: "كل الحكمة تتقيّد بالروح القدس: فالنعمة للرسل، والشهداء يُتوَّجون لمآثرهم، والأنبياء يعاينون". كل النعَم والمواهب المعطاة لأعضاء الكنيسة هي من الروح القدس: المعاينة النبوية، الحياة الرسولية والنهاية الاستشهادية. هذا يعني أن رؤى الأنبياء ليست اختلاقات من الفكر والمخيّلة، الحياة الرسولية ليست رسالة ذات مركز بشري، وشهادة القديسين ليست تفعيلاً لإرادة قوية، بل هي جميعاً عطايا يمنحها الروح الكلي قدسه.


من بين هذه المواهب التي تُعطى للإنسان الذي يحصل على الروح القدس، هي الحياة المقدّسة، الجهاد للحفاظ على وصايا الله إلى أعلى الدرجات والعيش في طهارة النفس والجسد، الحياة الزوجية في المسيح ضمن العادات الاجتماعية، والخدمة الرعائية في المسيح والعديد غيرها من الاهتمامات... بكلام آخر، كل عطايا النعمة ممنوحة من الروح القدس. إذاً، الروح القدس "يشكّل كل كيان الكنيسة" التي هي جسد المسيح.

الثانية عشر:
ما أن امتلأ الرسل بالروح القدس حتى غمرهم فرح عظيم. لقد كانت خبرة جديدة لهم. فيما كانوا سابقاً مجرّد أشخاص طيبين، فقد صاروا الآن أعضاء جسد المسيح القائم. لم يكونوا مرغَمين على عبادة المسيح، بل كانوا متّحدين به بشكل وثيق. كل الذين رأوهم ارتبكوا، والبعض قال ساخراً "أنهم ممتلئين من الخمر"، أي أنّهم سكروا من الخمر الجديدة (أعمال 13:2).

يسمّي آباء الكنيسة نزول الروح القدس إلى قلب الإنسان "الثمالة الرزينة" (ديونيسيوس الأريوباغي). وفي إشارة إلى هذه الحالات، يتحدّث القديس اسحق السرياني عن أن كل قوى الإنسان تغرق في ثمالة عميقة. وهي تسمّى ثمالة لأنّ فيها فرح عظيم وسعادة، وهي رزينة لأن الإنسان لا يفقد حواسه ولا عقله. عندما يملأ الروح القدس إنساناً ما، فهو يبقى حرّاً، أو بتعبير أفضل، إنه يكتسب حرية حقيقية، لا تعمل كقوة للخيار، على ما تحكي الأخلاق الفلسفية، بل كإرادة طبيعة وغلبة للموت. يقول الرسول بولس بشكل مميز: "أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ خَاضِعَةٌ لِلأَنْبِيَاءِ." (1كورنثوس 32:14). هذا يعني أن النبي يخضع لموهبة النعمة التي فيه، وهي تخضع له، أي أنّ حرية الإنسان لا تُبطَل وقوى عقله لا تُخضَع.

يقول القديس نيقوديموس الأثوسي أنّ هناك ثلاث أنواع من الثمالة. الأول، يأتي مع الخمر الكثيرة وهو سبب شرور كثيرة. الثاني هو الثمالة التي تحرّكها الأهواء، وهي الثمالة التي قال عنها النبي إشعياء: "وَيْلٌ لإِكْلِيلِ فَخْرِ سُكَارَى ... الْمَضْرُوبِينَ بِالْخَمْرِ" (إشعياء 1:28). وفي مكان آخر يقول النبي نفسه عن أورشليم: "اسْمَعِي هذَا أَيَّتُهَا الْبَائِسَةُ وَالسَّكْرَى وَلَيْسَ بِالْخَمْرِ." (إشعياء 21:51). النوع الثالث هو الثمالة المسبَّبَة من الروح القدس. نجدها عند والدة النبي صموئيل التي كانت تصلّي في الهيكل من كلّ قلبها وصلاتها كانت نوسية وقوية إلى درجة أن عالي الكاهن ظنّ أنّها سكرى وأراد أن يخرجها من الهيكل. وقد أجابت وقالت أنّها ليست سكرى بل كانت تسكب قلبها للرب (1صموئيل 14:1-15).

لقد اختبر الرسل هذا النوع الثالث من الثمالة في يوم العنصرة، لأنّهم حصلوا على الروح القدس واكتشفوا مكان القلب، وازدادوا معرفة بالمسيح، وصاروا أعضاء لجسده، وازدادت محبتهم وشوقهم للمسيح، وقد عبّروا عن كل هذا يالصلاة، بحسب ما يذكر الآباء.

الثالثة عشر:
عيد العنصرة هو آخر أعياد التدبير الإلهي، كما سبق وأشرنا. فلكي يخلص الجنس البشري ويعود إلى حالته السابقة، لا بل ليرتفع أيضاً إلى أعلى من السابق، أي إلى حيث كان ينبغي بآدم أن يصل وفشل في الوصول، أرسل الله ابنه الحبيب المولود الوحيد. أظهر الله أبنه، وكشف وجوده، ومن ثمّ أرسل الروح القدس الذي انبثق من الآب وأُرسِلَ من المسيح الابن. والروح القدس جعل البشر أعضاء في جسد المسيح وأنارهم لكي يعرفوا المسيح والآب. إذاً، ترتيب التدبير الإلهي وخلاص البشر هو: "أب، ابن وروح قدس، لأن الآب أرسل الابن والابن أرسل الروح القدس." لكن ترتيب تألّه الإنسان هو العكس تماماً: الروح القدس يقود الإنسان إلى الابن، ومن خلال الابن يعرف الإنسان الآبَ.

في تحليل هذه النقطة، وخاصةً الجزء الأخير منها، يصف القديس باسيليوس الكبير مسيرة الإنسان إلى معرفة الله، فيقول أنّه عندما نحصل على الموهبة التي يوزّعها الروح القدس، نلتقي أولاً مع الموزِّع، أي الروح القدس، ومن ثمّ نكوّن فكرة غامضة عن المرسِل، أي الابن، ومن بعدها نرفع ذكرانا إلى مصدر كل خير وعلّته أي الآب. نجد التعليم نفسه عند الكثيرين من قديسي الكنيسة. علينا أن نشير إلى تعليم القديس سمعان اللاهوتي الحديث الذي يقول إنّه إن كان المسيح الباب فالروح القدس هو المفتاح لفتح الباب وهكذا هي السبيل للوصول إلى الآب.

بهذا المنظار يوجد صلوات خاصّة بالروح القدس كمثل "أيّها الملك السماوي، المعزّي روح الحق، الحاضر في كل مكان، المالئ الكلّ، كنز الصالحات ورازق الحياة، هلمّ واسكن فينا وطهّرنا من كل دنس، وخلّص أيها الصالح نفوسنا". نرى هنا تسلسل معرفة الله: يتطهّر القلب بالروح القدس، ومن ثمّ يعرف المسيح، وبعدها يأتي إلى الآب. ومع ذلك، كما ذكرنا في أماكن أخرى، قوة الإله الثالوثي مشتركة بين الأقانيم الثلاثة، دون أن يعني هذا أن الأقانيم تجلس جانباً، لأن النعمة الإلهية تعمل من خلالهم. ففي اللاهوت الأرثوذكسي نحكي عن نعمة وقوة أقنومية.


نرى هذا في القداس الإلهي، حيث كل صلوات التقدمة هي إلى الاب ليرسل الروح القدس ويحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. وبالحقيقة، يحوّل الروح القدس التقدمة إلى جسد المسيح ودمه، ونشترك نحن بالتقدمات العزيزة ونصير مسكناً للإله الثالوثي.

يعلّم الآباء أنّ فيما الروح القدس ناشط في كل الخليقة وكل البشر، يشترك كل شخص بقوى الروح بقدر تقبله. على الإنسان أن يمتلك عضواً تقبلياً لكي يحصل على مواهب الروح القدس المتعددة الأوجه. في إشارة إلى هذا، يقول القديس مكسيموس المعترف أن القديسين يكتسبون مواهب مختلفة من النعمة، ليس بالقوة الطبيعية، بل بالقوة الإلهية. كل مواهب النعمة تُعطى بالروح القدس ولكن بحسب تلقي القديسين. لا يبث الروح القدس الحكمةَ في القديسين من دون أن يمتلكوا النوس الذي يتلقّى الحكمة، ولا المعرفة إذا لم يكن عندهم قوة العقل، ولا الإيمان من دون النوس والفكر العارف بالأمور الآتية، ولا موهبة الشفاء من دون المحبة الطبيعية للبشر. هذا يعني أنّ القديسين يحصلون على مواهب اللاهوت والمعرفة والشفاء، إذا كان عندهم الأداة لتلقّي الموهبة.

وهذا لا ينطبق فقط على مواهب اللاهوت بل على كل المواهب. فهي تُسمّى مواهب النعمة لأنها منحة من الله، ولكن على حسب الحالة الروحية لكل إنسان. يشير أيضاً القديس مكسيموس إلى أنّ كلاً من المؤمنين يتلقّى قوة الروح القدس بحسب إيمانه وحالة روحه. بعد تفسيره لقوانين كل من الأعياد، يقدّم القديس نيقوديموس الأثوسي تطبيقات وجودية مركّزاً على الطريقة التي بها يُعطى المسيحي أن يحيا هذا الحدث في حياته الشخصية. ويستعمل عادة عبارة مميزة: "كيف وبأي طريقة". أجد هذه العبارة ذات معنى كبير لأنّها تجعل تعليم الكنيسة ملموساً وغير مجرّد. هذا لأنه يمكننا التحدّث عن الأمور اللاهوتية نظرياً دون أن تمسّ نفوسنا.

هذا النوع من الكلام غير أرثوذكسي. إذ عندما نقرأ عظات آباء الكنيسة القديسين نكتشف أنّهم يحللون الأحداث من وجهة نظر "كيف وبأي طريقة". وهكذا، في نهاية عمله التحليلي لقوانين العنصرة، يظهر القديس نيقوديموس كيف يمكننا اكتساب الروح القدس حسيّاً في قلوبنا. آخذاً مثال الرسل الذين، إذ أطاعوا وصية السيد، عادوا إلى أورشليم وانتظروا هناك، إلى أن أخذوا الروح القدس، فيقول أنّ هذه هي الطريقة التي بها يمكننا أن نشترك في قوة الروح القدس. علينا أن نهمل كل أمور العالم، وعندما يعود نوسنا إلى القلب، كما إلى هيكل، يمكننا أن نصلي بدون انقطاع بحسب كلمات الرسول بولس "صلّوا بلا انقطاع" (اتسالونيكي 17:5).


بتعابير أخرى، علينا أن نرتفع فوق ما هو أرضي، فوق كل ما هو حسي، محبة المال ومحبة المجد وكل الأهواء الأخرى، وأن نكون في العلية دائماً، في النوس النقي. من ثمّ يتخلّص القلب من الشهوة وتكون النفس في سلام من التجديف والشر والأفكار الشائنة. يقول القديس باسيليوس أنّه يستحيل أن نستحق الحصول على النعمة الإلهية إنْ لم نخلع عن النفس كل الأهواء الشريرة. "ما كان هناك قبلاً ينبغي رميه خارجاً لكي نتمكن من احتواء الآتي".

يعلّم القديس ذياذوخوس أسقف فوتيكي أننا بالمعمودية نحصل على الروح القدس في قلبنا ونصبح أعضاء في جسد المسيح. في أي حال، نحن نحجب هذه النعمة بالأهواء، لكننا لا نفقدها كليّاً. علينا، من جهة، أن نرمي رماد الأهواء، ومن جهة أخرى أن نلهب كالحطب تطبيق الوصايا. لكن لكي يشتعل الحطب بشرارة النعمة المقدسة علينا أن ننفخ بقوة مع الصلاة" يا ربي يسوع يا ابن الله وكلمته ارحمني"، فيما يعود نوسنا إلى القلب.


تسمّى هذه الصلاة بالصلاة النوسية المقدسة. في تفسيره لفكرته، يقول القديس ذياذوخوس أنّه عندما تثبت هذه الصلاة في القلب لوقت طويل، فهي لا تطهره من الأهواء وحسب، بل عندما تجد شرارة النعمة الإلهية تضيء ناراً غريبة مدهشة، تحرك هجمات الأفكار الشريرة، تلطّف القلب وكل العالم الداخلي وتنير النوس. ويقول القديس غريغوريوس بالاماس أنّ مَن يجمع نوسه في قلبه ويرفعه إلى الله يتغير بشكل جميل.

في الحقيقة، يصبح الإنسان إناءً متقبلاً، عندما تشتعل نار النعمة الإلهية في قلبه بقوة الروح القدس. يقول القديس باسيليوس الكبير أنّ هناك "احتراق حقيقي للروح يضيء القلب". وبالواقع، يظهر أن هذا الاحتراق الذي يضيء النفوس ويبيد الشوك والبقايا بعد الحصاد، كان ناشطاً في الرسل الذين تكلّموا بألسنة نارية، ولمع حول الرسول بولس، وأضرم قلوب كلاوبا والذين كانوا معه. هذه النار هي ما يبيد الشياطين، لكنّها أيضاً قوة القيامة، طاقة عدم الموت، استنارة النفوس المقدسة وتأييد القوات العقلية.


إذاً، العنصرة كان مرة في التاريخ، لكنه يُستعاد في حياة القديسين. عندما يبلغ المتقدّسون حالة من الحياة الروحية، يشتركون في العنصرة ويصبحون رسلاً ليسوع المسيح. العنصرة هي أعلى نقطة من التمجيد والتألّه. كلّ الذين يسلكون الرحلة نفسها مع الرسل يصلون إلى معاينة الله ويشتركون في نعمة العنصرة وقوتها.

لم تكن غايتنا تحليل كلّ ما يتعلّق بأقنوم الروح القدس وبقواه. وبرغم وجود أوجه كثيرة مثيرة للاهتمام، ما أردنا إظهاره هو أنه لا يمكن فصل الخريستولوجيا عن البنفماتولوجيا، ولا البنفماتولوجيا عن الخريستولوجيا. لقد أشرنا بشكل أساس إلى الأحداث الخريستولوجية في عيد العنصرة، والمرتبطة بشدة بالروح القدس. إن الرسول بولس واضح في قوله: "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ." (روما 14:8).



ليس كل البشر الذين خلقهم الله أبناء له، فقط الذين ينقادون بالروح القدس. البنوّة مرتبطة بالصلاة النوسية الداخلية: "الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ:«يَا أَبَا الآبُ»" (روما 15:8). روح الله الذي سوف يكون حاضراً في قلب الإنسان "أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ." (روما 16:8). إنّ مَن عنده الروح القدس في داخله هو نفسه ابن لله، ما يشهد بروحنا ويؤكّد أن الإنسان هو ابن لله. من ناحية ثانية، حضور الروح القدس في قلبنا تثبّته صلاة القلب الداخلية التي تخرج مع أنّة.

إن لم يملك الإنسان الروح القدس في داخله، فهو لا ينتمي إلى المسيح، ما معناه أنّه ليس عضواً حياً في جسد المسيح. حتى ولو كان معمّداً في وقت ما، فنعمة المعمودية تبقى معطّلة، ويكون هذا الانسان عضواً ميتاً في الكنيسة. هذا ما يقوله الرسول بولس في مقطع مهم ملهَم "إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ." (روما 9:8). لا أحد ينتمي إلى المسيح إن لم يكن عنده الروح القدس، مع الشروط المسبقة التي ذكرناها قبلاً. على العكس، إذا كان لأحد ما الروح القدس في داخله، فهو فعلياً عضو في جسد المسيح، لأنّه ليس "فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ" (روما 9:8). يظهِر هذا المقطع أيضاً مدى ارتباط الخريستولوجيا بالبنفماتولوجيا.

أحد أهداف تجسّد ابن الله هو أن يحصل البشر على الروح القدس ويصيروا أعضاء في جسد المسيح، وهكذا يصيرون مساكن لللإله الثالوثي. لهذا السبب، إحدى غايات الحياة الروحية هي مقاسمة الروح القدس ومن خلالها أن نصير أعضاء ناشطين في الكنيسة، أعضاء حية في جسد المسيح وفي شركة مع الإله الثالوثي.

إن خريستولوجيا لا تقود إلى الاشتراك مع الروح القدس ضمن الجسد الحقيقي للمسيح، نظرية ولا تفيد. هناك حاجة لتحليل العبارات الخريستولوجية، بالتحديد لتأمين الطريقة العلاجية وللإشارة إلى طريق التطهّر، الاستنارة والتمجيد. لكن عندما لا تقود إلى المشاركة الشخصية في التقديس تكون عديمة الجدوى. لقد تحرّك التحليل السابق في هذا الإطار. علينا أن نحسّ بشرف وبركة كبيرين، لأنننا ننتمي إلى الكنيسة الأرثوذكسية وعندنا إمكانية أن نشارك في الروح القدس وأن نكون عبدة أرضيين للثالوث القدوس. هذا طبعاً إن عشنا على مستوى هذه البركة العظيمة.


مع محبتي للجميع بالمسيح ربنا آمين

سامر يوسف الياس مصلح

12/06/2011

ليست هناك تعليقات: