الختن، كلمةٌ سريانيةٌ تعني في اللغة العربية (العريس).
نسمع هذه الكلمة مراتٍ عديدة في ليتورجيتنا، وخاصةً في صلاة نصف الليل، وصلاة الختن في الأسبوع العظيم من الصوم الأربعيني المقدس أيام (الأحد - الاثنين - الثلاثاء)، فنسمع: "ها هوذا الختن يأتي في نصف الليل، فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظاً....".
وهذه الطروبارية مأخوذة من مثل العذارى في إنجيلي متى ولوقا، الذي طرحه السيد المسيح كأنموذجٍ للنفس البشرية في اختيارها طريق اليقظة والسهر الروحي من خلال اقتناء (الزيت) الذي هو الفضائل والأعمال الصالحة، حيث نسمع في المثل عن العذارى العشر اللواتي خرجنّ للقاء العريس (دلالة المجيء الثاني للسيد المسيح)، خمس عاقلات، وخمس جاهلات، أما العاقلات فكان معهن زيتاً كفاية، ليستقبلن فيه العريس الذي جاء في منتصف الليل (دلالة على قدوم السيد المفاجئ)، فكن متيقظاتٍ واستحققن أن يستقبلن العريس، ويأخذنَّ الطوبى. عكس العذارى الخمس الجاهلات اللواتي جاهدنَّ، ولكن ليس كفايةً، فلم يستحققنَ لقاء العريس وبقينَّ خارج العرس أي خارج الملكوت.
من هنا، فالكنيسة تحث المؤمنين على عدم الاستغراق في النوم، أي عيش اليقظة الدائمة التي من خلالها ننتبه إلى حياتنا وتصرفاتنا في حفظ وصايا الرب، ونكون متيقظين حتى نستحق في النهاية أن نستقبل يسوع (الختن)، في قلوبنا ليملك عليها، ولنكون مثل العذارى الخمسة اللواتي دخلن مع يسوع إلى العرس الإلهي.
كانت حياة المسيح كلها آلاماً وصليباً. فقد وُلد مصلوباً من الطبيعة، في أبرد شهور السنة، وُلد عرياناً لم تجد أُمُّه ما تغطي به جسده الغض. وُلد بين الحيوانات، في مغارة ليس بها باب. وهكذا بدأ حياته مصلوباً. جاع وعطش، تعب، حزن، بكى... آلام لا نهاية لها.
لذلك يمكن أن نلُخص حياته كلها التي قضاها على الأرض ونقول: إنه وُلد وعاش هذه الثلاث والثلاثين سنة لكي يُصلب. وهذا هو النوع الأول من الآلام التي جازها المسيح على الأرض، آلام طبيعية، دخلت عليه، فقَبِلَها، ورضي بها اضطراراً، ولكنه اضطرار الحب. فالمسيح من عمق حبه قَبِلَ تلك الآلام، لم يمنع نفسَه من قبول الأوجاع والإهانات التي آتته. قَبِلَ كل هذا من جهة الحب والحق والاتضاع.
جاء والتزم بهذه الآلام الصغيرة من جهة المشورة الإلهية التي حتَّمت التجسد، وأن يصير إنساناً، في صورة عبد، يحمل آلام العبيد وأتعابهم. كل هذا لم يكن هو مُضطراً لقبوله قط ولا كانت حُتِّمت عليه بإلزام.
كان قادراً بقدرته الإلهية أن يبيد الأشرار بنفخة فيه، ولكنه تركهم يفعلون به كما يشاءون. كان يمكن أن لا يتعب من السفر ساعات طويلة فيسير على الماء أو حتى في الهواء، ولكنه لم يفعل. كان باستطاعته أن يُفجِّر من الأرض ينابيع ماء لا تنضب، ولا يطلب من السامرية ماءً ليشرب. كان يمكن أن لا يجوع، ذاك الذي أطعم الآلاف، ولكن إذ به يطلب من تلاميذه أن يبتاعوا له خبزاً.
في كل هذا، حجز قدرته الإلهية، لتمنعه من العوز والضيق ومن الحزن والألم، من الجوع والعطش.
كل الآلام السابقة كانت شركة مع البشرية، آلام دخلت عليه دخولاً طبيعياً. يقول سفر العبرانيين عن المسيح إنه كان مُجرَّباً مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية طبعاً. ولكننا نقول إن هذه الآلام ليست هي الآلام التي فدت البشرية، فالفداء تم بالصليب والموت.
وهنا نأتي إلى النوع الثاني من الآلام التي جازها المسيح، وهي الآلام الخلاصية، آلام الفداء، الآلام التي انتهت بالموت. فبالموت وحده أكمل المسيح الفدية. "نفسٌ بنفسٍ". هذه الآلام دخل إليها المسيح دخولاً متعمَّداً مقصوداً وحتَّمها على نفسه ، وقَبِلَ حتميتها من يد أبيه الحانية، بل هو أتى إلى هذه الساعة، وارتضى أن يشرب كأس الصليب التي أعطاها له الآب. فالصليب، يا أحبائي، محسوب حسابه من قبل الزمن: «عالمين إنكم اُفتديتم لا بأشياء تفنى..بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم». من هنا جاءت حتمية الآلام وحتمية الفداء، فداء الموت. بل إننا نستطيع أن نقول أن صليب المسيح كان مرسوماً ومكتملاً في التدبير الإلهي كفعل كامل تم في المشورة الإلهية ولا يُنتظر إلا استعلانه بحسب الواقع البشري الزمني فقط. يقول في سفر الرؤيا: «الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح». فالمسيح مذبوح بالفعل في المشورة منذ الأزل، وهو إلى الآن قائم كأنه مذبوح.
وهكذا فإن آلام الصليب الفدائية لها في الحقيقة وجهان:
وجهٌ بشعٍ يمثله حقد اليهود وشرهم المريع، والعداوة التي أضمروها والشهود الكذبة والقضاء الظالم، ثم عذابات الصلب والمسامير والجلد والبصق...، لهذا السبب أُعثِر غيرُ المؤمنين في الصليب، ظنوا أنه عن عجز وضعف. ولكن هذا هو الوجه الظاهر للصليب.
ولكن هناك وجه آخر مُشرق: إنه مشورة الآب المحتومة منذ الأزمنة الأزلية، قبل تأسيس العالم. هذا الوجه ينضح حباً ومسرة، ويرتفع إلى أعلى مفهومات البذل الإلهي الفائق الوصف من نحو العالم، كما تقول الآية: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنه حب مكنون في قلب الآب من جهة الابن، والذي على أساسه سلَّم ابنه للذبح. فهنا خطة الصليب لم تقم على شر الأشرار وظلم الظالمين ولكن على أساس الحق الإلهي والعدل الذي لابد أن يُستوفى هنا على الأرض. هذه الصورة مُبهجة جداً لذلك يقول: «احتمل الصليب، مُستهيناً بالخزي، من أجل السرور الموضوع أمامه». فـ "أمامه"أي في الأزل، أي قبل أن ينـزل ويتجسد، أي أن المسيح كان يعرف مُسْبقاً تماماً ما هو سوف يُتممه في الزمن.
ونقول يا أحبائي، إن هذا الوجه المخزي المؤلم للصليب، لم يُثنِ المسيح عن تتميم مطالب الوجه السماوي المملوء طاعةً وكرامةً للآب، ثم حبه العميق من نحو البشرية. وقد كان من نتيجته انتصار الحب الإلهي، انتصاراً فيه تمجيد الله الآب بكل طاعة الابن. وانتصاراً لخلاص الإنسان على مدى الأيام والدهور كلها. نعم كان الصليب هو طريق الاتضاع والمذلة الإرادية المُذهلة؛ ولكنه كان هو هو في نفس الوقت الذي أوصل المسيح إلى قمة الانتصار والمجد السماوي، ومعه ملايين من الخليقة الجديدة من بني الإنسان الذين رفعهم إلى ذات المجد وذات النصرة وأدخلهم معه على الحياة الأبدية في شركة الآب وإلي ملء الفرح الأبدي.
والآن ما هي قيمة آلام المشاركة بالنسبة لنا؟
المسيح أخذ طبيعتنا بكل أتعابها التي دخلت فينا بسبب الخطية واللعنة، شارك البشرية في آلامها الطبيعية التي كانت محسوبة أنها لعنة بسبب الخطية. هو يسألنا: أتبكون؟ يقول لنا: لا تحزنوا، لقد بكيت مثلكم. أتجوعون وتعطشون؟ لقد جُعتُ وعطشتُ أنا أيضاً. َأظـُِلمتـُمْ؟ لقد كنتُ مُستهدفاً لكل أنواع المظالم وأقصاها. لقد شاركتُ البشرية في كل أتعابها وأوجاعها وآلامها التي ورثتها بشريتكم وصارت في أجسادكم نتيجة لعنة الخطية.
وطبعاً المسيح هو من غير خطيئة وبدون لعنة، إذن، فكونه يشارك آلامنا، تكون مشاركته عالية القيمة جداً جداً، فهي تنضح علينا، وتعود علينا قوة القدوس البار الذي بلا لوم، الذي صار رئيس كهنة، لكي يكون رحيماً فيما لله، لكي يعيننا نحن المُجرَّبين. كذلك فإن الجهد والتعب، والأحزان بأنواعها، الضيقات بكل صنوفها، هي أيضاً شارَكَنا المسيح فيها. تنازل عن مجده، رفع العصمة عن نفسه، قال مَرحباً بالآلام، مع أن الألم لا يستطيع أن يَقْرَبَـه؛ فمن هو الذي يستطيع أن يؤلمِّ ابن الله؟! ولكن هذا هو مسيحنا الذي رفع اللعنة عن عرق الجبين لأكل الخبز، ورفع اللعنة عن جميع الأوجاع والأمراض وحوَّلها إلى شركة حب. لذلك نحن عندما ندخل في مثل تلك الآلام ننظر لمن تألم معنا بها، مثلنا تماماً، ونستمد منه العون.
إن من يحيا في المسيح، من يمُسك في المسيح، لن يصير له الألم بعد لعنة، لن يُحسب عليه أي ظلم أو جور أو حزن أيّاً كان أنه لعنة أو غضب أو تخلية؛ بل ستتحول الحياة كلها إلى لذة، إلى حب ومشاركة حب. نحن لم نعُد نعيش بعد لأنفسنا؛ بل للذي مات من أجلنا وقام. لقد صرنا مربوطين بالمسيح ارتباطاً لا انفصال فيه، لا يُخلخله ألم، ولا تؤثر فيه مظالم أو أمراض أبداً. لا تخلية بالنسبة لأولاد الله أبداً. آلامك لم تعد لك، يا حبيبي، أفراحك هي أيضاً ليست لك، كل الحياة أصبحت له. بل أقول سرّاً: إنك ستحس بالمسيح في أحزانك وآلامك أكثر من إحساسك به في أفراحك.
لقد دخلت الحياة برمتها في المسيح يسوع هذا الذي عاش حياتنا مثلنا تماماً.
سؤال: هل نحن عملنا شيئاً ولم يعمله هو؟! هل نحن مررنا على أية قامة وهو لم يمر عليها؟! هل تألمنا نحن بنوع ألم لم يختبره أو يَجُزْهُ المسيح؟!
لقد استقطب المسيح كل الآلام اليومية الطبيعية، رفع عنها عنصر اللعنة المتغلغلة في سائر حياتنا. وبالتالي صارت أتعابنا وأمراضنا وأوجاعنا كلها الآن، لا تمتُّ للَّعنة الأولى بصلة. لم يعُد للخطية سلطان. أما الآلام التي قد نجوزها الآن، فهي بركة، إنها شركة في المسيح. فكل ضيق وألم نجوزه الآن، هو من يد الله، لكي ننمو في الله.
صورة عجيبة، يا أحبائي، لقد تحولت الحياة اليومية إلى حياة فوق الزمن.
فمع الله في المسيح يسوع، لم يعد هناك بعد لعنة، لم يعد هناك انفصال عن الله، والانفصال هو اللعنة بعينها. الآن، نحن نحيا لا لأنفسنا، ونتألم لا لأنفسنا؛ لأن ابن الله مات عنا، ليعيدنا إلى الله كاملين في الحب. لذلك أصبحت الآلام اليومية لكل أولاد الله هي شركة حب ووقود لإشعال القلب كل يوم بحبه. وكأننا لا نتألم وحدنا ولا نحيا لذواتنا بل نتألم لنـزداد قُرباً من الله، ونزداد حباً فيه وحياة. ها هو ذا الختن يأتي في نصف الليل فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظااما الذي يجده متغافلا فهو غير مستحق فانظري يا نفسي ألا تستغرقي في النومويغلق عليك خارج الملكوت وتسلمي الى الموتبل كوني منتبهة صارخة : قدوس قدوس قدوس انت يا الله.
من اجل جميع قديسيك ارحمنا.
مع محبتي للجميع بالمسيح ربنا آمين
أسبوع مبارك للجميع
سامر يوسف الياس مصلح
بيت ساحور - 05/04/2015
نسمع هذه الكلمة مراتٍ عديدة في ليتورجيتنا، وخاصةً في صلاة نصف الليل، وصلاة الختن في الأسبوع العظيم من الصوم الأربعيني المقدس أيام (الأحد - الاثنين - الثلاثاء)، فنسمع: "ها هوذا الختن يأتي في نصف الليل، فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظاً....".
وهذه الطروبارية مأخوذة من مثل العذارى في إنجيلي متى ولوقا، الذي طرحه السيد المسيح كأنموذجٍ للنفس البشرية في اختيارها طريق اليقظة والسهر الروحي من خلال اقتناء (الزيت) الذي هو الفضائل والأعمال الصالحة، حيث نسمع في المثل عن العذارى العشر اللواتي خرجنّ للقاء العريس (دلالة المجيء الثاني للسيد المسيح)، خمس عاقلات، وخمس جاهلات، أما العاقلات فكان معهن زيتاً كفاية، ليستقبلن فيه العريس الذي جاء في منتصف الليل (دلالة على قدوم السيد المفاجئ)، فكن متيقظاتٍ واستحققن أن يستقبلن العريس، ويأخذنَّ الطوبى. عكس العذارى الخمس الجاهلات اللواتي جاهدنَّ، ولكن ليس كفايةً، فلم يستحققنَ لقاء العريس وبقينَّ خارج العرس أي خارج الملكوت.
من هنا، فالكنيسة تحث المؤمنين على عدم الاستغراق في النوم، أي عيش اليقظة الدائمة التي من خلالها ننتبه إلى حياتنا وتصرفاتنا في حفظ وصايا الرب، ونكون متيقظين حتى نستحق في النهاية أن نستقبل يسوع (الختن)، في قلوبنا ليملك عليها، ولنكون مثل العذارى الخمسة اللواتي دخلن مع يسوع إلى العرس الإلهي.
كانت حياة المسيح كلها آلاماً وصليباً. فقد وُلد مصلوباً من الطبيعة، في أبرد شهور السنة، وُلد عرياناً لم تجد أُمُّه ما تغطي به جسده الغض. وُلد بين الحيوانات، في مغارة ليس بها باب. وهكذا بدأ حياته مصلوباً. جاع وعطش، تعب، حزن، بكى... آلام لا نهاية لها.
لذلك يمكن أن نلُخص حياته كلها التي قضاها على الأرض ونقول: إنه وُلد وعاش هذه الثلاث والثلاثين سنة لكي يُصلب. وهذا هو النوع الأول من الآلام التي جازها المسيح على الأرض، آلام طبيعية، دخلت عليه، فقَبِلَها، ورضي بها اضطراراً، ولكنه اضطرار الحب. فالمسيح من عمق حبه قَبِلَ تلك الآلام، لم يمنع نفسَه من قبول الأوجاع والإهانات التي آتته. قَبِلَ كل هذا من جهة الحب والحق والاتضاع.
جاء والتزم بهذه الآلام الصغيرة من جهة المشورة الإلهية التي حتَّمت التجسد، وأن يصير إنساناً، في صورة عبد، يحمل آلام العبيد وأتعابهم. كل هذا لم يكن هو مُضطراً لقبوله قط ولا كانت حُتِّمت عليه بإلزام.
كان قادراً بقدرته الإلهية أن يبيد الأشرار بنفخة فيه، ولكنه تركهم يفعلون به كما يشاءون. كان يمكن أن لا يتعب من السفر ساعات طويلة فيسير على الماء أو حتى في الهواء، ولكنه لم يفعل. كان باستطاعته أن يُفجِّر من الأرض ينابيع ماء لا تنضب، ولا يطلب من السامرية ماءً ليشرب. كان يمكن أن لا يجوع، ذاك الذي أطعم الآلاف، ولكن إذ به يطلب من تلاميذه أن يبتاعوا له خبزاً.
في كل هذا، حجز قدرته الإلهية، لتمنعه من العوز والضيق ومن الحزن والألم، من الجوع والعطش.
كل الآلام السابقة كانت شركة مع البشرية، آلام دخلت عليه دخولاً طبيعياً. يقول سفر العبرانيين عن المسيح إنه كان مُجرَّباً مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية طبعاً. ولكننا نقول إن هذه الآلام ليست هي الآلام التي فدت البشرية، فالفداء تم بالصليب والموت.
وهنا نأتي إلى النوع الثاني من الآلام التي جازها المسيح، وهي الآلام الخلاصية، آلام الفداء، الآلام التي انتهت بالموت. فبالموت وحده أكمل المسيح الفدية. "نفسٌ بنفسٍ". هذه الآلام دخل إليها المسيح دخولاً متعمَّداً مقصوداً وحتَّمها على نفسه ، وقَبِلَ حتميتها من يد أبيه الحانية، بل هو أتى إلى هذه الساعة، وارتضى أن يشرب كأس الصليب التي أعطاها له الآب. فالصليب، يا أحبائي، محسوب حسابه من قبل الزمن: «عالمين إنكم اُفتديتم لا بأشياء تفنى..بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهِرَ في الأزمنة الأخيرة من أجلكم». من هنا جاءت حتمية الآلام وحتمية الفداء، فداء الموت. بل إننا نستطيع أن نقول أن صليب المسيح كان مرسوماً ومكتملاً في التدبير الإلهي كفعل كامل تم في المشورة الإلهية ولا يُنتظر إلا استعلانه بحسب الواقع البشري الزمني فقط. يقول في سفر الرؤيا: «الذين ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح». فالمسيح مذبوح بالفعل في المشورة منذ الأزل، وهو إلى الآن قائم كأنه مذبوح.
وهكذا فإن آلام الصليب الفدائية لها في الحقيقة وجهان:
وجهٌ بشعٍ يمثله حقد اليهود وشرهم المريع، والعداوة التي أضمروها والشهود الكذبة والقضاء الظالم، ثم عذابات الصلب والمسامير والجلد والبصق...، لهذا السبب أُعثِر غيرُ المؤمنين في الصليب، ظنوا أنه عن عجز وضعف. ولكن هذا هو الوجه الظاهر للصليب.
ولكن هناك وجه آخر مُشرق: إنه مشورة الآب المحتومة منذ الأزمنة الأزلية، قبل تأسيس العالم. هذا الوجه ينضح حباً ومسرة، ويرتفع إلى أعلى مفهومات البذل الإلهي الفائق الوصف من نحو العالم، كما تقول الآية: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد». إنه حب مكنون في قلب الآب من جهة الابن، والذي على أساسه سلَّم ابنه للذبح. فهنا خطة الصليب لم تقم على شر الأشرار وظلم الظالمين ولكن على أساس الحق الإلهي والعدل الذي لابد أن يُستوفى هنا على الأرض. هذه الصورة مُبهجة جداً لذلك يقول: «احتمل الصليب، مُستهيناً بالخزي، من أجل السرور الموضوع أمامه». فـ "أمامه"أي في الأزل، أي قبل أن ينـزل ويتجسد، أي أن المسيح كان يعرف مُسْبقاً تماماً ما هو سوف يُتممه في الزمن.
ونقول يا أحبائي، إن هذا الوجه المخزي المؤلم للصليب، لم يُثنِ المسيح عن تتميم مطالب الوجه السماوي المملوء طاعةً وكرامةً للآب، ثم حبه العميق من نحو البشرية. وقد كان من نتيجته انتصار الحب الإلهي، انتصاراً فيه تمجيد الله الآب بكل طاعة الابن. وانتصاراً لخلاص الإنسان على مدى الأيام والدهور كلها. نعم كان الصليب هو طريق الاتضاع والمذلة الإرادية المُذهلة؛ ولكنه كان هو هو في نفس الوقت الذي أوصل المسيح إلى قمة الانتصار والمجد السماوي، ومعه ملايين من الخليقة الجديدة من بني الإنسان الذين رفعهم إلى ذات المجد وذات النصرة وأدخلهم معه على الحياة الأبدية في شركة الآب وإلي ملء الفرح الأبدي.
والآن ما هي قيمة آلام المشاركة بالنسبة لنا؟
المسيح أخذ طبيعتنا بكل أتعابها التي دخلت فينا بسبب الخطية واللعنة، شارك البشرية في آلامها الطبيعية التي كانت محسوبة أنها لعنة بسبب الخطية. هو يسألنا: أتبكون؟ يقول لنا: لا تحزنوا، لقد بكيت مثلكم. أتجوعون وتعطشون؟ لقد جُعتُ وعطشتُ أنا أيضاً. َأظـُِلمتـُمْ؟ لقد كنتُ مُستهدفاً لكل أنواع المظالم وأقصاها. لقد شاركتُ البشرية في كل أتعابها وأوجاعها وآلامها التي ورثتها بشريتكم وصارت في أجسادكم نتيجة لعنة الخطية.
وطبعاً المسيح هو من غير خطيئة وبدون لعنة، إذن، فكونه يشارك آلامنا، تكون مشاركته عالية القيمة جداً جداً، فهي تنضح علينا، وتعود علينا قوة القدوس البار الذي بلا لوم، الذي صار رئيس كهنة، لكي يكون رحيماً فيما لله، لكي يعيننا نحن المُجرَّبين. كذلك فإن الجهد والتعب، والأحزان بأنواعها، الضيقات بكل صنوفها، هي أيضاً شارَكَنا المسيح فيها. تنازل عن مجده، رفع العصمة عن نفسه، قال مَرحباً بالآلام، مع أن الألم لا يستطيع أن يَقْرَبَـه؛ فمن هو الذي يستطيع أن يؤلمِّ ابن الله؟! ولكن هذا هو مسيحنا الذي رفع اللعنة عن عرق الجبين لأكل الخبز، ورفع اللعنة عن جميع الأوجاع والأمراض وحوَّلها إلى شركة حب. لذلك نحن عندما ندخل في مثل تلك الآلام ننظر لمن تألم معنا بها، مثلنا تماماً، ونستمد منه العون.
إن من يحيا في المسيح، من يمُسك في المسيح، لن يصير له الألم بعد لعنة، لن يُحسب عليه أي ظلم أو جور أو حزن أيّاً كان أنه لعنة أو غضب أو تخلية؛ بل ستتحول الحياة كلها إلى لذة، إلى حب ومشاركة حب. نحن لم نعُد نعيش بعد لأنفسنا؛ بل للذي مات من أجلنا وقام. لقد صرنا مربوطين بالمسيح ارتباطاً لا انفصال فيه، لا يُخلخله ألم، ولا تؤثر فيه مظالم أو أمراض أبداً. لا تخلية بالنسبة لأولاد الله أبداً. آلامك لم تعد لك، يا حبيبي، أفراحك هي أيضاً ليست لك، كل الحياة أصبحت له. بل أقول سرّاً: إنك ستحس بالمسيح في أحزانك وآلامك أكثر من إحساسك به في أفراحك.
لقد دخلت الحياة برمتها في المسيح يسوع هذا الذي عاش حياتنا مثلنا تماماً.
سؤال: هل نحن عملنا شيئاً ولم يعمله هو؟! هل نحن مررنا على أية قامة وهو لم يمر عليها؟! هل تألمنا نحن بنوع ألم لم يختبره أو يَجُزْهُ المسيح؟!
لقد استقطب المسيح كل الآلام اليومية الطبيعية، رفع عنها عنصر اللعنة المتغلغلة في سائر حياتنا. وبالتالي صارت أتعابنا وأمراضنا وأوجاعنا كلها الآن، لا تمتُّ للَّعنة الأولى بصلة. لم يعُد للخطية سلطان. أما الآلام التي قد نجوزها الآن، فهي بركة، إنها شركة في المسيح. فكل ضيق وألم نجوزه الآن، هو من يد الله، لكي ننمو في الله.
صورة عجيبة، يا أحبائي، لقد تحولت الحياة اليومية إلى حياة فوق الزمن.
فمع الله في المسيح يسوع، لم يعد هناك بعد لعنة، لم يعد هناك انفصال عن الله، والانفصال هو اللعنة بعينها. الآن، نحن نحيا لا لأنفسنا، ونتألم لا لأنفسنا؛ لأن ابن الله مات عنا، ليعيدنا إلى الله كاملين في الحب. لذلك أصبحت الآلام اليومية لكل أولاد الله هي شركة حب ووقود لإشعال القلب كل يوم بحبه. وكأننا لا نتألم وحدنا ولا نحيا لذواتنا بل نتألم لنـزداد قُرباً من الله، ونزداد حباً فيه وحياة. ها هو ذا الختن يأتي في نصف الليل فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظااما الذي يجده متغافلا فهو غير مستحق فانظري يا نفسي ألا تستغرقي في النومويغلق عليك خارج الملكوت وتسلمي الى الموتبل كوني منتبهة صارخة : قدوس قدوس قدوس انت يا الله.
من اجل جميع قديسيك ارحمنا.
مع محبتي للجميع بالمسيح ربنا آمين
أسبوع مبارك للجميع
سامر يوسف الياس مصلح
بيت ساحور - 05/04/2015